أدب يعقوب الشاروني يطالب بتنمية
الصحراء، ويحذر من ندرة المياه، ويعلي من
شأن ثقافة الترشيد
تعد رواية الفتيان "معجزة في الصحراء" للأديب يعقوب الشاروني والصادرة عن دار نهضة مصر عام 2013م، من أبرز وأقوي الأعمال التى تكلمت عن الواقع المصري، بإبداع مكتمل الأركان، وشرح فيها المؤلف ما يواجه المجتمع العربي من مشاكل، بهدف وضع التحديات المستقبلية أمام ضمير القارئ الصغير، ليتمكن من مواجهة هذه المعضلات في المستقبل بالعلم والعمل.
ملخص رواية معجزة في الصحراء:
بداية يجدر بنا القول بأن هذه
الرواية موجهة إلى الفتيان في المرحلة العمرية من 12: 18 سنة، وتدور أحداث هذه الرواية في واحة "الجارة"
المصرية، المعزولة عن العالم، والتي يعيش سكانها في أجواء بدائية، وعزلة عن
العالم. تقع "الجارة" في
عمق الصحراء الغربية علي بعد 130 كيلو مترم من واحة "سيوة"
بالقرب من الحدود المصرية الليبية.
بدأ الحدث الدرامي بالرواية منذ اللحظة
الأولى بخبر جفاف وإنسداد بئر المياه المعروف باسم "أم الصغير" مصدر
الحياة بالواحة، مما يهدد سكان الواحة
بالفناء، والبالغ عددهم نحو45 رجلا، و55 سيدة، 36 صبيًا، وعشرة أطفال رضع،
ونحو 85 روحا من الإبل ، والحمير، والماعز هي كل ثروة الواحة المنكوبة.
يجمتع كبير الواحة الشيخ مهدي بكل
السكان من البشر، لبحث مواجهة الموت، حيث أن الماء الذي كان في الأزيار لا
يكفى سوي الشرب البشر فقط، ولمدة ثلاثة أيام، مع الترشيد الشديد، وأن الحيوانات والمزروعات
معرضتا للهلاك، وسوف يلحق بهم الموت إذا استمرت الأزمة بدون حل.
فرض التحدي على الجميع ضرورة التفكير للفرار
من الموت، وفي إطار درامي بالغ الروعة، تستمر الرواية تعرض في إطارها السردي كيف
قام أهل واحة الجارة بمواجهة الأزمة، وبذل المجهودات الشاقة حتي تم حلها.
الصورة السردية: لقد كان السرد الروائي متميزًا عند الشاروني، ومكتوب
بشكل متقن، وفي هذا الشأن يقول د. محمد أنقار: "أن الصورة
الروائية تجربة يتلذذ بها المتلقي المساهم في فعل القراءة بدوره الحاسم، وجدله
الثري مع خطوط النص ومظاهره الجزئية وبياناته ومعلوماته وجوانبه المتفاعلة
والمنعكسة على بعضها البعض. وحقيقة هذه الصورة، من منظور التلقي، لا تكمن في تشكيل
التوافقات بين العناصر، بل في، طريقة التشكيل نفسها. ومن هنا نرى أن كل تحديد صارم
للصور الروائية لا يمكن تحققه إلا بالكشف عن مجموع الطرائق التي يمارسها الوعي
لتمثل الصور من خلال العناصر الجمالية المقترحة من لدن المبدع في كل متن
روائي". وقد نجح المؤلف منذ الوهلة الأولى في صياغة لغة السرد كبوابة
لتمرير وجهة نظره عبر الأدب.
القيم والأفكار في الرواية:
تمتلء الرواية عن بكرة أبيها بالكثير من القيم التربوية، وقيم البناء،
وغيرها، مما يمنح القارئ الصغير، والفتيان جرعة ثقافية، وفكرية، سوف تنعكس على
تكوينهم النفسي بالإيجاب، وعن طريق المحاكاة سوف يستقر في الوجدان أنماط التفكير،
وأساليب التعاون المجتمعية لمواجهة الأخطار الحالية، والمتوقعة، وسوف نستعرض سويًا
بعضًا من هذه القيم التي وردت في
رواية على سبيل المثال وليس الحصر، ومن
النقاط التي تحمل وجهة نظر قابلة التحليل يما يلي:
1 – تنمية الصحراء العربية: من العتبة النصية الأولى للرواية، حيث
العنوان"معجزة في الصحراء" تؤكد الرواية على ضرورة استغلال هذه المساحة الشاسعة، والتعامل معها
على أنها هبة طبيعية، يجب تعظيم الفائدة
منهان والكشف عن محتوياتها المخبؤة، من نفط ومعادن، وغيرها، بهدف تحقيق فكرة التنمية المستدامة، وتُغطي الصحراء أغلب مساحة الوطن
العربي، وأكبرها هي الصحراء الإفريقية الكبرى، وصحراء شبه الجزيرة العربية، كما
تُشكل الهضاب النسبة الأكبر المنتشرة من التضاريس، بينما تُشكل السهول نسبة ضئيلة تصل
إلى 6% من المساحة الكلية، ومن هذا العرض يتضح أن الصحاري العربية تغطي معظم مساحة الوطن العربي.
وإن كانت الرواية تخاطب الفتيان إلا أن
الكاتب يضع مشكلة تنمية الصحراء منذ البداية أمام الكبير والصغير لعل هناك من ينجح
في تقديم الحلول المناسبة لهذا الغرض، وتلك القيمة التنموية تجعل من المضمون ذا قيمة
منذ الوهلة الأولى .
2 – مشكلة المياه: الدلالة الرمزية بالرواية منذ بدايتها إلى
نهايتها، تتكلم عن أكبر أزمة تهدد الاستقرار
المائي بمصر والعالم العربي، ومشكلة إنسداد بئر أم الصغير ما هي إلا صورة
رمزية لندرة المياه، وعدم كفايتها، ومن ثم فإن وضع هذا التحدي في وقت مبكر أمام
الطفل، ربما يدفعه إلى ابتكار الحلول البديلة في المستقبل.
ويمكن قراءة مشكلة المياه في عالمنا العربي
وفقاً لتقرير البنك الدولي الصادر في عام
1993م، فسوف يبلغ متوسط نصيب الفرد السنوي من الموارد المائية المتجدّدة والقابلة
للتجدّد في الوطن العربي667 متراً مكعباً في سنة 2025م، وطبقًا للمؤشرات الدولية
في مجال المياه، فإن أيّ بلد يقلّ متوسط نصيب الفرد فيه من المياه سنوياً عن 1000-
2000 متر مكعب يعتبر بلداً يعاني من ندرة مائية؛ وبناءً على ذلك، فإن 13 بلداً
عربياً تقع من ضمن فئة البلدان ذات الندرة المائية، ويقدر العجز المائي المتوقع في
المنطقة العربية بحوالى261 مليار م3 في العام 2030م.
وطرح قضية المياه في هذه الرواية يعد تنبيهًا
للطفل العربي منذ نعومة أظافره حول خطورة هذه المشكلة، كي يحاول
التفكير في حلها من اليوم من أجل البقاء، فلا حياة بدون ماء، وتعد قيمة الاهتمام
بالماء من القيم الاقتصادية المرتبطة بالبقاء.
3 –التفكير العلمي: عندما بدأت الرواية ملتهبة بسبب حادث إنسداد
بئر أم الصغير بواحة الجارة، بسبب تشقق
الحجر الذي كان على فوهة البئر، وسقوطه في الأنبوبة الذي يصل طوله 25 مترًا، في
باطن الأرض، ويقوم بتوصيل المياه الجوفية إلى أعلى ليمد البشر، والحيوان،
والزرع بالحياة، وتضاربت التفسيرات بين أهل الواحة عن السبب،
إلا أن الكاتب في القصة وضع التفسير العملي للظاهرة على لسان الفتى الصغير
"حمزة"، حيث قال حمزة في ص: 8: "إذا كان الماء قبل وضع الحجر،
يخرج مندفعا من البئر كأنه نافورة، فلماذا لا تكون نافورة الماء هذه قد استمرت
تضرب الحجر من أسفل، حتى تمكنت من نحته، وإذابته، وتشقيقه كما تفعل مياه السيل
المندفعة عندما تحتك بصخور الجبل"
وإذا كان البحث العلمي هو وسيلة للاستعلام والاستقصاء المنظم والدقيق الذي يقوم به الباحث بغرض اكتشاف معلومات، أو علاقات جديدة بالإضافة إلى تطوير، أو تصحيح المعلومات الموجودة فعلاً، على أن يتبع في هذا الفحص والاستعلام الدقيق، خطوات المنهج العلمي، واختيار الطريقة والأدوات اللازمة للبحث وجمع البيانات والمعلومات الواردة في العرض بحجج وأدلة وبراهين ومصادر كافية.؛ فإن الصغير "حمزة" بالرواية ، قد مارس التفسير العلمي لإنسداد بئر أم الصغير بأسلوب بسيط يتناسب مع ثقافته المحدودة.
ويأتي التحليل العلمي لتفسير سبب انسداد
البئر كدعوة غير مباشرة للفتيان إلى إعمال العقل عند حدوث أي مشكلة، وسوف يستقر
هذا المبدأ في ذهن الصغار طوال حياتهم، وسوف يتحول بالضرورة إلى سلوك يدعوهم عند الخطر إلى تحديد أسباب وأبعاد المشكلة،
وهذا المنهج له فائدة‘ لأن تحديد المشكلة
يساعد على محاصرتها، ومنع تمددها، ومن ثَمَّ حلها، فمن الضروري لكل فرد من أفراد المجموعة أن يكون لديه فهم واضح
للمشكلة، بحيث تُركز كل الطاقات في نفس الاتجاه نحو الحل.
4– المشاركة المجتمعية: تبرز تلك القيمة منذ بداية الرواية، وجسدها
الكاتب عندما دعا كل السكان في الواحة للاجتماع لحل المشكلة، وإقناعهم بضرورة
الترشيد في استخدام الماء، وترتيب الأولويات، فروح الإنسان مقدمة على حياة
الحيوان، والنبات، وبرزت أهمية الاستماع
إلى صوت الجماهير عندما قالت النساء: إن الأطفال الرضع لا تتحمل ترشيد
الاستهلاك، ولن تتحمل العطش، وهنا قال
زعيم القبيلة إن حق الرضع في الماء مقدم
على كافة حقوق الكبار.
وتعكس هذه الرواية أهمية أن تكون الحلول
الاقتصادية، والاجتماعية للمشاكل نابعة من الاستجابة إلى أبناء الإقليم، أو القرية، وغيرهم ممن
يعيشون أجواء المشكلة، وقد طبّق الشيخ مهدي شيخ الواحة نظرية التواصل مع
الجماهير، وهذا يذكرنا بالمفكر المصري الراحل جمال حمدان عندما سُئل ذات مرة عن الوظيفة التي يرغب في شغلها فجاءت إجابته الفورية: "وزير
ولو مرة واحدة للشئون البلدية والقروية, فمن يتولي هذه الوزارة يملك في يده نهضة
مصر أو تخلفها, فالشئون البلدية هي البنية الأساسية التي بدونها لا تستقيم حياة
الناس في المدن, والشئون القروية هي العمود الفقري الذي بدونه ينقسم ظهر مصر".
5 - حقوق الإنسان:
ومن الومضات الجديرة بالتقدير ما طرحه الكاتب حول قيمة الحقوق المشتركة بين
البشر في استخدام الموارد المتاحة قدر الحاجة دون إسراف، أو تبذير عبر التعاون،
على اعتبار أن الحق في الحصول على الماء والغذاء،
من بيديهيات حقوق الإنسان، وجاء ذلك على لسان زعيم الواحة الشيخ مهدي في ص 13 عندما قال: "هنا نعيش كلنا أسرة
متعاونة، كأننا في بيت مشترك، كل واحد من حقه أن يأخذ من خضروات الحقول ما يحتاج
إليه دون استئذان، وكل فرد يستطيع أن يحصل من ماء البئر على ما يشاء بغير
قيود".
تلك القيم ذات دلالة ناضجة، فإذا أصبح الصغير المخاطب في هذه
الرواية مسئولا في يوما، سوف يحرص على توفير تلك الحقوق لشعبه، وأذا ظل بين صفوف
الجماهير كموطن سوف يحترم حق أخيه الإنسان في الحصول احتياجاته على الضرورية
للحياة.
6 - ثقافة الترشيد: في ذكاء يحسب للكاتب أكد بصورة خاطفة أن وقت
الأزمات ينبغي على الجميع الترشيد، والحد من الاستهلاك لضمان مرور الأزمة بسلام،
وقد ظهر ذلك عندما طالبهم الشيخ مهدي بضرورة الترشيد والاقتصاد في استخدام
الماء، ومصر كدولة على سبيل المثال لن تمر من كبوتها الاقتصادية الحالية إلا
بإعلاء قيم الترشيد وضبط النفقات الخاصة والعامة، ومن ثم كان هذا المفهوم
الاقتصادي بالرواية شديد الوضوح عندما طالب الشيخ مهدي زعيم الواحة الجميع بضرورة
الترشيد في استهلاك الماء القليل الذي يوجد بالبيوت لحين إصلاح الإنسداد ببئر الماء، بهدف إنقاذ الواحة من
الفناءـ والموت عطشًا.
7- التراث العربي بالرواية: وقد استدعى المؤلف التراث العربي للتذكير
ببعض خصال الجمال عندما كانت تستخدم كسفن للصحراء، وخاصة بما يعرف بالحداء- أى
الغناء- بصوت حسن، وأن أثر ذلك على الأبل كمفعول السحر، حيث يجعلها تسرع في السير،
وهذا الحداء كان من أدوات العرب للتغلب على طول السفر في الصحراء، ولتحفيز الإبل،
وجاء هذا الاستدعاء عندما قام حسن الحداد بالغناء وهو في طريقه إلى واحة
سيوة، بصحبة يونس أفندي، وهذا يدل على أن
الكاتب قام بصياغة مشروعه الأدبي عبر الدراسة والتنقيب عن عادات العرب الاجتماعية
والتراثية لمعايشة ظروف الصحراء القاسية، فامتزج الصدق بالبناء الفني للرواية.
تميز يعقوب الشاروني: يرجع التميز في كتابات هذا المؤلف إلى إثقال
الموهبة بالعلم والتجارب، وفهو حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة 1952م، ودبلوم الدراسات العليا فى الاقتصاد السياسى
1955م، دبلوم في الاقتصاد التطبيقى 1958م،
كما سافر إلى فرنسا فى منحة لدراسات ثقافة الطفل والعمل الثقافي بين
الجماهير 1969م.
وهذا
التأهيل العلمي جعل يعقوب الشاروني من الكُتاب الذين يوظفون المعارف، وقيم البناء
في خدمة الموهبة، وقد تميز المؤلف بجانب الأدب بأنه ألف الكتب النقدية، وترجم بعض الدراسات عن أدب الطفل، وهذا الثراء جعله من العارفين والمشاركين في
صناعة التراث الثقافي في مصر، والعالم
العربي، وقد أنتج مئات الأعمال الأدبية للطفل، وترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات
العالمية، وقد حصل على العديد من الجوائز.
تعليقات
إرسال تعليق