القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية "العنيدة والذئاب" بين الأدب والتحليل النفسي.


صلاح شعير يناقش التغيرات في الهرم الاجتماعي، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وبث ثقافة الأمل.

دراسة وتحليل : د. سلامة تعلب

    صدرت للكاتب والأديب صلاح شعير رواية "العنيدة والذئاب" عن دار يسطرون للطبع والنشر والتوزيع، وسوف يتم نشرها إلكترونيًا  لتكون متاحة لعشاق الأدب فى جميع أنحاء العالم عن طريق موقع العبيكان، وموقع كتبى؛ حيث يتميز المؤلف بتنوع إنتاجه الأدبي بين المسرح والرواية، وأدب الطفل، والدراسات الأدبية، والفنون والتراث، وغيرها من البحوث الاقتصادية، والاجتماعية ، والكتابة الصحفية.

ملخص الرواية:

  تدور أحداث الرواية في القاهرة الكبري، في إطار رومانسي قلق، حيث تنقسم ليلي بين حلمها في الحب والثراء، بيد أن جمالها الفائق يجعلها مطمعًا لكل الذكور، إلى أن يستطيع ناجي النفاذ إلى قلبها، وبعد صراع شاق، وطول معاناة فاز بها، وتزوجها، ولكن غيرته عليها تسببت في تصدع هذه العلاقة ومن ثم الطلاق؛ فكسرت الصدمة إيمانها بالحب كعاطفة راقية تجمع بين الرجل والمرأة، وبعدها سقطت في عالم البحث عن المادة، ولكن تعرضها للكثير من ألاعيب الرجال، وكذب بعضهم عليها؛ كل ذلك جعلها تفقد الثقة في الحياة وتتحول إلى شخصية متمردة، عنيدة تارة، وضائعة تارة أخرى، وتزوجت مرة ثانية، ولكنها لم تفلت من الألم النفسي بسبب ما أصابها من جراح متعددة، وظلت هكذا حتى قابلت كمال عمر ذلك الشاب النبيل الذي أعاد إليها الثقة في الدنيا، ولكنه وصل متأخرًا، فوظف كل طاقته لانتشالها من الفراغ حتى تحيا سعيدة، وذلك في حقبة زمنية تقدر بثلاثة عقود.

البناء الفني للرواية:

    تتميز الرواية بثراء مضمونها، وتعدد مشاربها، وانتماءاتها ما بين: الواقعية والرومانسية والاجتماعية والنفسية؛ فهي رواية تنتمي لكل هذه التصنيفات، الأمر الذي يمكن معه أن نطلق عليها الرواية الشاملة المتحررة من التصنيف التقليدي للرواية، أضف إلى ذلك قوة بنائها الفني؛ والإمساك ببراعة بعنصري الزمان والمكان، والابتكار في تعدد المكان ورحابته، وتعدد العقد والإشباعات بشكل مرحلي بنائي؛ يسهم في تكوين العقدة الرئيسة والحل، والمحافظة على عناصر التشويق بشكل دائم ومستمر، مع نوع من التوتر الشيق، ورسم الشخصيات بهدوء وتمهل، وعلى مراحل تراكمية متدرجة دون قفزات مزعجة.

اللغة والصور الجمالية:

   صيغت الرواية بلغة سهلة بسيطة، تُوهم بالعامية، لكنها فصيحة مألوفة تناسب الشخصية الناطقة بها، ومن أوضح الخصائص المميزة للكاتب والمبدع " صلاح شعير" في هذه الرواية-وفي سائر أعماله الروائية- جمال الصورة وثرائها، وذلك النبع الدفاق الذي لا ينضب من التشبيهات والاستعارات التي لا يعجز عن توليدها وابتكارها، وتزخر بها كل صفحة من صفحات الرواية.




الشخصيات:

   تنطلق هذه الرواية- بشكل واع- من بوابة التحليل النفسي الرصين عبر الإبداع الأدبي؛ حيث الغوص في أغوار النفس البشرية بعمق، ورصد ما يؤثر فيها من لحظات الميلاد حتى نهاية العمر؛ لأن التربية تمثل موجهًا سلوكيًا مهمًا في حياة الأفراد، ومحددًا رئيسيًا للشخصية، وهذا ما طرحته الرواية بحرفية عالية، عندما رصدت مراحل الطفولة لكل الشخصيات الرئيسة؛ فعلى سبيل المثال: يؤثر ترتيب الشخص بين إخوته بدرجة كبيرة في نمو الشخصية، ويؤثر التفريق في المعاملة بين الإخوة على السلوك الإنساني لاحقًا،  كذلك مدى إشباع الحاجات الفسيولوجية، والعقلية، والنفسية، وارتباط ذلك بالصحة النفسية؛ حيث يظل إشباع الحاجة لتحقيق الذات في قمة الاحتياجات الموجهة للسلوك الإنساني، وهو ما يتفق مع نظرية "ماسلو" في الحاجات النفسية؛ حينما وضع الحاجة لتحقيق الذات في قمة هرمه التصنيفي.

  رصد الكاتب معالم الشخصيات بوعي وتحليل موضوعي، وضغط بشدة على الجرح المؤلم، حيث النرجسية، والاستعراضية نوعان من الأعراض المعروفة في التحليل النفسي، عرفناهما في شخصية البطلة- ليلى- في وضوح وإقناع من المؤلف، كذلك النكوص، والتعويض، من الظواهر النفسية التي ناقشتها الرواية.

   وتبرز الرواية في شخصية ناجي غريزة حب التملك، وفي شخصية تفيدة هانم مشكلة الحرمان العاطفي، وأثر الإشباع العاطفي في الصغر على شخصية كل من رضوان، وفواكه، أما محاولة الشخص تعويض ما حُرم منه في طفولته من إشباعات؛ فيلجأ لتعويضها في الكبر  ظهر في شخصية  السلاموني بيه، وزوجته راوية هانم، وكذلك طرحت الرواية تأثير البيئة العشوائية على جنوح بعض الشخصيات نحو الجريمة.

    وقد نجح المؤلف في توظيف الشخصيات في خدمة الصراع الدرامي المتصاعد حيث عرض كل الأنماط البشرية بتوازن، حيث لم يطرح فكرة الكوب الفارغ فقط، فقد قدم النصف الممتلئ من الكوب أيضًا، حتى لا ينشر ثقافة التشاؤم، وتلك المنهجية في البناء الروائي تجعل  العمل منطقيًا وممتعًا، لأن القارئ يرى بيئته الواقعية في النص الأدبي،  وسوف يجد المتابع أن الرواية تضم شرائح عديدة تمثل صور مألوفة من المجتمع المصري، حيث برزت شخصيات رجال الأعمال الأشرار، في  كل من: فتحي شهدي، راضي حمزة، أما عن تدهور مستوى الطب البشري فقد برز ذلك في شخصية الطبيب الجزار الذي لا هم له إلا جمع المال، وصورة المحامي الانتهازي في شخصية سمير طايع، أما وجوه الخيرفي المقابل فكانت في صورة كل من  رجل الأعمال عبود بيه، وتفيدة هانم الأنيقة، والمحامي وليد دعبس. أما الطبقات المسحوقة؛ فقد برزت في شخصية جاد أفندي، وصورت الرواية أيضًا أسباب المعاناة النفسية، والإحباطات التي يعاني منها الشباب العاطلون الذين لم يشفع لهم الاجتهاد والعلم في اللحاق بركب العمل  وبرز ذلك في شخصية دكتور سيد جاد.

مضامين الرواية:  يوجد بالرواية الكثير من المضامين المتنوعة، والتي تصف وتصور الكثير من المعاني الرومانسة، و القيم الاجتماعية، وغيرها، وسوف يتم عرض بعضها  على سبيل المثال وليس الحصر كما يلي:

العلاقة بين الرجل والمرأة:






    في مقابل الخط الرومانسي الرقيق في شخصية ليلى وناجي وكمال عمر، ظهرت شخصية المرأة النمطية التي ترى أن الزواج رجل وامرأة وإمكانيات، أما المشاعر فسوف تاتي لاحقًا وظهر ذلك في شخصية رجاء وزوجها،  وعرض الكاتب صورة الانحلال  الخلقي في فتاة الليل مي والمصور، في مقابل الطهر والعفاف في شخصية رضوان وفواكه، أما ضحايا الحب الكاذب فقد ظهر في نموذج الفتاة شهد المذبوحة في شرفها باسم الحب، ومن ثم نجد أن الكاتب عرض كل الصور التي تحدد علاقة  آدم بحواء بشكل غير مباشر، وبتحليل عميق عبر صوت الرواي الذي كان يظهر في لقطات محددة دون إسراف يشعر المتلقي بالملل.

قاع المدينة:

   عندما ولج المؤلف في داخل المناطق العشوائية التي برزت كمرض سرطاني في المدن المصرية شرح معالم شخصيات العربجي، وجودة الزبال، وسندس كلاف المواشي، وزوجته كريمة بائعة الحلوى، وعنتر الحلاق، وزوجته حسنات البلانة، وبائع السميط الذي تحول إلى رجل أعمال عن طريق تجارة المخدرات، وزوجته فلة بائعة الورد التي اشترت شهادة جامعية لتصبح صاحبة مدرسة خاصة، ولم يقصد الكاتب بقاع المجتمع إهانة للفقراء؛ بل للسلوك الإجرامي فقط؛ معلنا تعاطفه مع هذه الطبقات المسحوقة؛ لأنهم مجرد ضحايا لسوء الإدارة طيلة عقود طويلة، يقول الكاتب في صـ 52: "نشأ "السلاموني" قرب منطقة الدويقة العشوائية، والتي  تعج بمختلف الشرائح بعضهم من جار عليه الزمان، وبعضهم من دفع رغمًا عنه إلى الجهل دفعًا؛ فسقط كما يسقط الذباب، ومعظم هؤلاء كانوا من المقهورين، كل آمالهم أن يعيشوا كرامًا، بعضهم يبحث بين مقالب القمامة عن كسرات خبز؛ تقمن صلبه، فإذا وجدها يهرول يبحث عن حائط يستظل به من حرارة الشمس، حتي ينام أسفله عندما يحل المساء، وغالبًا لا يجد هذا الحائط؛  فيهيم على وجهه  مصلوبًا في الضياع"


التغيرات في الهرم الاجتماعي:



   
 تطرح الرواية صورًا للهرم الاجتماعي المقلوب الذي طغى على النسيج الاجتماعي في الكثير من الحالات، وقد جاء هذا التغير في جزء منه بعيدأ عن معايير الكفاءة أوالعلم، أوالعمل؛ حيث تكمن خطورة بعض هذه التغيرات في أن الثراء الذي هبط على بعض الأفراد إنما تحقق عبر الأنشطة غير المشروعة وعلى رأسها تجارة المخدرات،  وهذا الاتجاه كان واضحًا في حسن بائع السميط الذي تحول إلى رجل أعمال عبر الأرباح الطائلة التي حصلها من نشاطه الإجرامي في بيع المخدرات، ومن ثم غادر عالم الفقر إلى عالم الثراء محملا بفكر العشوائيات، فطمس بما يحمله من عادات سلبية قمة الهرم مع أمثاله من المخالفين للقانون، ومن ثَمَّ تصدعت منظومة الأنساق الاجتماعية بسبب تصدع بعض القيم الحاكمة للسلوك لدى الشرائح الفاسدة من اللذين يهدمون منظومة القيم بسطوة المال الملوث، وسوف يكتشف المتابع للأحداث أن الذي تغير في هؤلاء هو الشكل أما الجوهر فقد ازداد سوءًا على سوء.

الغيرة والحسد:

   تلك الصفتان الذميمتان من أخطر ما يغلف سلوك البشر، وقد شرحتهما الرواية بوضوح في عدة أنماط سلوكية في تصرفات بعض الشخوص، وخاصة شخصية رجاء موظفة الحكومة التقليدية، تلك المرأة التى عاشت ما يقرب من ثلاثة عقود مع صديقتها ليلى بقناع زائف ناعم الملمس من الخارج وشديد السواد من الداخل، فإذا كان الحسد هو تمني زوال النعمة عن المحسود فإن محرك هذا السلوك لدي رجاء كان بسبب كرهها لقوة شخصية صديقتها،  وقدرتها على نيل إعجاب الرجال، وتكوين الثروة، حيث كانت تتمنى في قرارة نفسها أن تكون مثلها أو أفضل منها،  وبسبب عجزها عن ذلك تحولت الغيرة إلى نارٍ تأكلها.

الثبات على المبدأ:

   تقول الرواية أن الأخيار في هذا العالم ثابتون على مبادئهم، وهم قوة البناء المنوط بها علاج الخلل الاجتماعي، وتنمية الأوطان، ومن هذه النماذج الجيد شخصية كمال عمر الذي ظل مؤمنا بقضايا العدل والحب والخير والعطاء رغم الإحباطات الممتالية التي لحقت به، ووجود مثل هذا الخط يدعم فكرة الثبات على مبادئ حب الخير، والوطن لدى المتلقي في بؤرة اللاشعور، وهذا الدور الداعم للقيم الإنسانية في الأدب قد يسهم في بناء  الأمم عبر التحفيز على السلوك الحميد، وجسدت تصرفات كمال عمر ابن الطبقة المتوسطة المتأرجحة بين الصعود والهبوط، والتآكل، كل معاني الشرف والنبل.

بث ثقافة الأمل:


   لم يبتعد الكاتب عن المنطقة الخضراء داخل النفس البشرية، فكل نفس تحمل في جوانبها الخير والشر؛ ولذا يدعونا المنطق لنبحث عن طريقة للتحفيز حتى ننتشل المجتمع من الشر، وقد زرع الكاتب تلك الفكرة من خلال التحول في شخصية  سامي السلاموني من شاب عابث يلهو بالنساء مستخدمًا مال أبيه الملوث في غواية النساء وخداعهن باسم الحب، ثم سرقة شرفهن، أو شراء أخريات من أسواق الرقيق الأبيض، لقد تغير عقب صدمة عاطفية هزت كيانه، وتدريجيًا هجر كهوف الضياع إلى طريق الخير، هنا نلاحظ إيمان الكاتب بما يسمى" فلسفة الالتزام في الأدب" ووضوحها لديه؛ حيث يهتم الكاتب بمشاكل وطنه ومجتمعه، ويقترح حلولاً ممكنة لها، ولكن كل ذلك في إطار من الفن الروائي الشيق المحكم، دون فجاجة أو تعدي على روح الفن والأدب.

سر السعادة:

    يعلي العمل الأدبي- الذي بين أيدينا- قيمة غاية في الأهمية، وهذه القيمة تكمن في أن السعادة في الرضا، وهذا ما تأكدت منه بطلة الرواية بعد أن انفقت عمرها تلهث وراء السراب، وكونها قد أدركت الحقيقة وهي على مشارف خريف العمر؛ فتلك ميزة؛ لأنها سوف تنفض عن نفسها آلام السنين، وتعيش مع نفسها في سلام وتناغم، وبما يمنحها السلامة والصحة النفسية، وقد جاء هذا المعني في نهاية الرواية على لسان ليلى وهي تكلم صورة أبيها في صـ 165 قائلة:  مازلت أسمع صوتك الحنون كأنه أهازيج الحمام تحلق  فوق رأسي بأجنحة الأمل، سوف أغتسل بنور الحقيقة، وأحضن الرضا، لأشرب من فيض القناعة، فكل العطاء هو قلبك الكبير.







تعليقات

التنقل السريع