دراسات
الرواية تحذر من الجهل والجريمة والعشوئيات وتؤسس لفكرة البناء في إطار من التشويق والسرد الممتع
مثل الريف المصري في الأدب القصصي المعاصر عنصراً
هاماً، وأسلوباً رومانسياً عذباً وواقعاً جهيراً في ابداعات أعلام الفن القصصي
ومنهم الرواد يحيى حقي، ومحمود البدوي، ومن جيل الستينيات محمد عبد الحليم عبد
الله، ومن الجيل التالي شاعر القصة القصيرة يحيى الطاهر عبد الله، وغيرهم، ويضع
الكاتب المبحر "صلاح شعير" بقلمه في مجالات بحثية وصحافية متعددة، لبنة
جديدة معاصرة في عالم الرواية عن الريف بروايته (أحلام الملائكة) والصادرة عن دار
الجندي للنشر والتوزيع.
وثيقة اجتماعية وموقع
الراوي في الرواية:
تقدم الرواية الريف المصري عبر فضاء المكان
مقترناً بفضاء الزمان معاً، وترسم مشهد التحولات الاجتماعية من وجهة قيم الريف
وتبدلات المجتمع المصري عموماً امتداداً زمنياً ومكانياً، ولذلك تعد الرواية من
وجهة نظري وثيقة اجتماعية ونفسية، دل علي ذلك شغف الكاتب عامة بالبحث العلمي
والفكري، والكتابة الصحافية التي تتناول مشكلات الواقع المصري، والقيام بتحليل
بواعث تلك التبدلات العميقة اجتماعياً ونفسياً، مما أثر علي طريقة تقديم عناصر
البناء الروائي (المكان / الزمان / الشخصية / الحدث) من خلال الراوي (الذات
الثانية للكاتب أو القناع الروائي)، والراوي عنصر فني في الرواية يبدعه الكاتب
الأصلي وكلما تمتع الراوي بالاستقلالية واختفي الروائي (الكاتب الحقيقي) بشكل
مباشر في إبداء وجهة نظرة، وفرض رأيه، كلما كانت الرواية أكثر فنية، واختار
الروائي هنا للسارد في الرواية موقع الراوي العليم كلي المعرفي بزمانه ومكانه
وأحداثه وبشخصيات الرواية وطبائعهم وما يعتمل في أنفسهم، والراوي بصفة عامة يتدرج
خطياً صعوداً طبقاً لدرجة معارفه عن عوالم الرواية (بكافة عناصر البناء الروائي)،
فمن الراوي الخارجي "الرؤية من الخلف" كلي المعرفة، إلي الراوي الخارجي
البعيد عن القول بالمعرفة الكلية "المراقب العام"، إلي الراوي الداخلي
كشخصية ثانوية في الرواية ذاتها، ثم الراوي الداخلي كشخصية رئيسة في الرواية،
وراوي أحلام الملائكة من النوع الأول كلي المعرفة الذي لم يقف عند تقديم معارفة
الكلية بعناصر البناء الروائي بل امتد إلي تقديم التحليل والتفسير والبواعث
الاجتماعية وراء تبدلات المكان والزمان وقيم شخصيات الريف الروائية الكائنات الورقية،
مما يعد استجابة لملكة التحليل وترتيب النتائج علي المقدمات وسوق الخلاصات
والتوصيات الكامنة لدي الكاتب "صلاح شعير" كما سبق أن أشرنا.
كما نجد حاسة
الباحث تلك في التخطيط الروائي بصناعة (30) عناوناً جانبياً أغلبها كلمة واحدة
دالة، منها ما يصف التحول (الجريمة) عقب عنوان (أحلام الملائكة)، ومنها ما يحمل
فكرة ادب الهامش (البؤساء)، ومنها الغائية الأخلاقية (شؤم المعصية والآلام).
خلاصات ثقافية (تغذية
الرواية):
المبدع الحق من يبذل جهداً مخلصاً في تمحيص
خلفيات السرد، فيطالع حول عوالم الرواية، ويقدم خلاصة ثقافية ذات دلالات معبرة
وخادمة لتلك العوالم، والرواية بين أيدينا تقدم مثل هذه الخلاصات والمعلومات وتطعم
عناصر البناء الروائي بها لتضيف إليها عمقاً آخر يخدم "المتن" الروائي
ذاته في عملية تأثير متبادل.
والإشارة لتلك الإضافات والمعارف يستكمل
معنا فكرة الروائي المهموم بتحليل الظاهرة الاجتماعية المصرية، وتشخيص أمراضها
المزمنة، والتنقيب عن التغيير المنشود عبر أنواع الكتابة، وهنا كانت الرواية.
ويقدم الجهد البحثي تغذية الرواية بخلاصات
ثقافية تتصل باجواء الريف حاضنة الشخصية المصرية، فنجد عادات ريفية قديمة مثل الطب
الشعبي ومهمة تختين ثمار الجميز (ص 4)، وعلاج قرصة الثعبان بعصارة الجميز الأخضر
(ص 8)، وفوائد عن الأعشاب والتوت، وطريقة بناء الطيور لأعشاشها، ودور الشمس
والطبيعة البكر في صحة الإنسان الفطري البسيط، وحديث القرية المجتمع المغلق وآلية
تناقل الأخبار والإشاعات ودورها في عالم الريف، ودال رائحة السمك (رائحة فضيحة
غزلانة)، وشارع القرية الكبير والنساء اللواتي يتداولن به دفتر أحوال القرية في
لقطات تفيض بها الرواية، وحلقات السمر عند حلاق القرية، وأهمية السائمة في حياة
الريفي، وطعامه البسيط اللذيذ لأن قلبه مفعم بالبراءة وطهر الطبيعة البكر، ومصباح
الصاروخ ومصباح نمرة خمسة ، والتدفئة في الشتاء ومشهد الغفير ص 91، فهناك معرفة
دقيقة بالريف، ولم يقتصر الأمر علي ذلك بل ضم هامشاً شارحاً حول الجوبيات السمكية
( ص 37)،
وحديث النيل: (...
النيل وهو يتدفق من الجنوب نحو الشمال، تداعب الرياح الرقيقة النهر، فتصنع تلك
المداعية موجات متتابعة يتنوع ارتعاعها حتي يقترب من 30 سنتيمتراً أحياناً، وفي
الصيف كلما ازداد ارتفاع الموجة ازدادت رقة النسائم التي تتصاعد محملة ببخار ماء
رطب يبهج البشر – ص 5)، ثم حديث يشير للتحول الخطير: (رصدت عين "شوكت"
أن شاطئ النيل فقد البريق) وبعد قليل: (إن الماء لونه قاتم ويتحرك بثقل تنبعث منه
رائحة كريهة لونه قد تغير أصبح ماءً آسناً – ص 150)، ولقطات ثرية حول ألوان
العمارة وزخارفها والطرازات المتعددة لها، وتدخين الشيشية، وشرب الريفي البسيط من
القلة ..... إلخ.
الشخصيات في
الرواية:
تتفاعل الشخصيات في الرواية بين فريقين
يمثلا قطبا الصراع الكوني الأزلي، وتتبدل تحولات الشخصيات وحضورها طبقاً وتوازياً
مع تحولات القيم المجتمعية عبر الزمان والمكان، وقبل الاستفاضة في تحليل هذه
الفكرة، نشير بداية أن قصدية الرواية ومضمونها وطبيعة كاتبها وموقع راويها، أثرت
تأثيراً تاماً علي الشخصيات، فكان الغوص الذاتي في بواطن الشخصيات الروائية مكتفيا
بالهدف الروائي والشرح الاجتماعي لتحولات القيم المصرية، فكانت الرواية مجتمعاً
عاصفا بعشرات الشخصيات ذات الأسماء الدالة علي سماتها النفسية، فقد أحصيت علي سبيل
الدقة عدد (61) شخصية، بعضها ذكر فقط باسمه في موضع وحيد بالرواية، وبعضهم حضر علي
مسرح السرد في موضعين، موضع بالتعريف به باسمه ومرة أخري بوصفها، مثال الداية
محبوبة والدة حمدية جاءت صفحة 6، ووصف لها ورد بصفحة 61، وأبو شنب اقل اللصوص
الثلاثة في درجة الشر، جاء التعريف بشخصه صفحة 37، ثم وصف درجة الشر لدية
وامتزاحها ببعض الخير صفحتان رقما 79 و 81، وهكذا بل إن بعض الشخصيات حضرت بصفتها
الاجتماعية ثم جاء اسمها كعلم للتعريف بها لاحقاً، فمثلا جاء ذكر زوجة العمدة
عطوان المر "نموذج الإقطاعي القديم" فقط هكذا صفحة 10، ثم ورد اسمها
"عفت" صفحة 13، وهكذا بل هناك شخصيات عامة وردت ضمناً بدون أسماء (لم
تدرج بالإحصائية) وإن كانت مؤثرة في شبكات العلاقات المجتمعية مثل المأمور
والمحافظ ومدير الأمن ... إلي آخره.
من اليمين الناقد خالد جود- الشاعر عاطف الجندي- د.عوض الغباري- صلاح شعير - د. محمد عصفور |
والملمح الآخر هو أن هذه الشخصيات تكاد
تشارك جميعاً في الأسماء الدالة المعبرة علي الخصائص لها، وأن قيمة العمل أو
الحرفة سائدة، لأن الحرفة أو المهنة هي البطاقة الاجتماعية في أجواء مثل هذه
الرواية العامة اجتماعياً، فهناك الصياد والزارع، والداية والحلاق والبقال (صاحب
الاسم الدال الوزان)، والتهامي الخياط، والغفير، وعطوة الحداد، والطبيب، وفكيهة
الخادمة، .... إلي آخره، ونجد فكرة النشاط والعمل ومعانقة الطبيعة قبل التحولات
منتجة أثرها في الطبيعة المصرية، يقول الراوي عن الفلاحات التي يلدن كدجاجة تضع
بيضة: (كثير من الفلاحات يلدن أثناء العمل في الحقول ويأتيهن طلق المخاض في دقائق
ويضعن المولود في دقائق أخري – ص 12)، ويصف ميلاد نور بطل الرواية الشعبي: (هبط
المولود أسفل سيقان شجر القطن بين الخطوط الترابية الجافة أثناء الظهيرة الملتهبة –
ص 12)، وكأنه عناق البراءة للطبيعة والواقع الجهم في آن واحد.
هذا الزحام يقدم أطياف القرية ونماذجها
المتعددة بطرقات سريعة تستهدف الرؤية حول التحولات القيمية في الأساس، لذلك يبدو
السؤال: لمن دور البطولة في الرواية، يبدو انها لأول وهلة للفني النقي
"نور" صاحب الاسم ثري الدلالة علي قيمة الخير، لكن ارى أن دور البطولة
في هذه الرواية ليست للشخصيات الرئيسة في حد ذاتها، بل للقيمة المناضلة القابعة في
أجواء القرية وجذور المجتمع المصرية، وأسبابي:
·
ان البطولة جماعية أسرية تمثل فرقاً كاملة
للأشرار والأخيار في الرواية، يمكن أن نراها مثلاً في أسرة العم حافظ (حافظ /
فوزية / نور)، وأسرة الداية (محبوبة / حمدية)، وأسرة اللقاء الحضاري (شوكت /
كاترينا ثم فوزية) ..... إلخ، بل وتحضر الصداقات كرابطة اجتماعية تماثل وتفوق في
وشائجها روابط الدم والقرابة مقسمة أيضاً كفرق كاملة، مثال: صداقة (نور / شوكت /
رجب جودة ابن شيخ البلد / ....)، صداقة الأشرار المزيفة (صقر / شمروخ / أبو شنب)،
وهي مزيفة لقيامها علي فكرة (المصالح تتصالح) فقط، شارحة لشبكات الفساد المهلكة
للمجتمع.
·
أن تلك البطولات الجماعية امتزجت أيضاً
ببطولة المكان، فنجد امتزاج جميزة العم حافظ كرمز روائي بارز وشاهد علي تعاقب
الأجيال وتبدلات القيم، بأسرة العم حافظ ذاتها، بل تكون شاهدة علي أهم أحداث
الرواية المفصلية في ذبح نور تحت جزعها وعدالة السماء التي تنزلت أيضاً تحت هذا
الجذع، وحضور النيل كدال مصري عميق الدلالة.
·
أن شخصية "نور" تمثل قيمة في ذاتها
حتي لو اندثر الكيان المادي لصاحبها (بنيان الله تعالي المهدوم بالاغتيال)،
فالاغتيال كان مادياً فقط، لكنه استمر معنوياً عبر تقنية الحلم فحضور
"نور" في الرواية استمر بعد قتلة يثبت ويرشد الأنقياء الأبرياء النابهين
"فريق الأخيار"، وينتقم ويعذب بسوط الضمير فريق الشر الوالغ في الدماء
والشرور، بل نجد فكرة توريث القيمة، فنجد خلفية شخصية "نور" حاضراً وتاريخياً، من خلال الحاضر
بمثل "شوكت" الرسالي، وتاريخياً بالتناسخ القيمي، بحضور شخصية ثانوية
وهو شخصية "نور" رئيس العمال (صفحة 12)، والذي سمي "نور"
الفتي الذبيح علي اسمه، حيث أنه بادر بفعل بسيط عميق الدلالة والقيمة في عالم يعج
بالفقر المدقع، بما يمنحنا فكرة (لا تحقرن من المعروف شيئاً).
·
إن "نور" غاب كياناً مادياً منذ ما
قبل منتصف الرواية (ص 70)، لكنه حاضراً كمعني من خلال تقنية "الحلم"
والتناسخ القيمي كما أشرنا، بما يمنح مغزي النص الشريف: (إنا نكتب ما قدموا
وآثارهم ....)، وفكرة الحرفة الحاضرة في أغلب شخصيات الرواية، ومنتج الأفعال حتي
بعد الموت، يمنح دالة المقاومة الاجتماعية لعوامل تجريف الشخصية المصرية النبيلة.
·
أن ظهور الشخصيات وتعاقبها كان سريعاً جداً
علي مسرح السرد منذ الكلمات الأولي في الرواية، فتم ذكر عدد (38) شخصية (ثلثي
الشخصيات) حتي صفحة رقم 58، من رواية قوامها (173) صفحة، اي في ثلث الرواية فقط،
ثم حضر باقي الشخصيات في باقي صفحات الرواية تحديداً عند نقطة مفصلية زمنياً صفحة
رقم 94، حيث مرت سنوات وسنوات
تحولات الشخصيات
الروائية (عند المنحي نري أفضل):
يحتل فريقي البطولة في نزاع القيم فضاء
الرواية، وتتنوع بينهما تبدلات المواقف كإشارات دالة، فاللونين الأبيض والأسود
يصبغان الفريقين، ويأتي علي قمة المشهد الفني "نور" القيمة التي استغرقت
اعجاب الراوي لأنها شخصية في ضمير الراوي إكسير الحل ونقطة الضوء في نهاية سرداب
عميق طافح بالشر والاستبداد، حيث نقطة الضوء تلك شمس كبيرة مشرقة في حس استشرافي
إيجابي، دل علي ذلك إهداء الرواية (إلي كل عشاق الأمل)، ودل أيضاً هذا الزحام في
وصف "نور" المعني، (الملاك الطاهر – ص 89)، (الفتي الذهبي – ص 73)، (نور
حلية القرية البهية وحلم الصفاء والنقاء – ص 69)، ويمكن تصنيف الفتي
"نور" المعني ومن علي منهجة باعتباره رائد (طليعة الحالمين في الخلاص من
الفقر والمرض – ص 74)، من الأبرياء المقاومين البناءين المعتنقين للقيم، وممن
يرثون عروش الأفئدة، ويحكمون الدنيا بثباتهم ونقائهم.
وتحفل الرواية بمشهد بصري كلي يشكل ملامح
(شجرة الأمل)، المزروعة في التربة المصرية بماء "النيل"، جذورها الأحلام
المفعمة بالبراءة (أحلام الصبية ترتفع لتلامس السحاب الكل يريد للقرية أن تنهض وأن
تتقدم – ص 54)، وتفرق الرواية بين الحالمين الذاتيين والحالمين لأوطانهم، ويصف
الحب كالسيل الجارف يروي هذه الشجرة (ص 95)، وتطرح الشجرة ثمارها الذكية (يتنظرها
الجوعي وهم علي حافة الموت – ص 52)، وتعانق الطبيعة التي تمثل فضاء المكان الروائي
المرتبط بالريف الأحلام في تلك المشهدية الشاعرية المنتجة لمعناها القيمي
رغم المذبحة والألم: (في لحظة الشروق تخضب الشمس الشاطئ بلون الذهب الرائع كما
تخضب أحلام الفتي الأيام بالأمل، يصعد الهواء الطازج من النهر ليعانق الأماني التي
تنطلق من قلب "نور" مقصبة بالحب ومطرزة بالبراءة – ص 69).
ومع تحقيق ثبات فريقي الشخصيات في الرواية
(أحادية اللون)، نجد هناك التلوين وتحولات شخصيات أخرى، باعتبار ان عناق الخير
والشر في النفس الإنسانية تحقق واقعية الرواية، ولحظات التحول في الشخصيات القصصية
عامة يحقق الرؤية الأفضل حيث أننا نشاهد أفضل عند منحنيات الطرق، فالثالوث الشرير
(صقر / شمروخ / أبو شنب) نجد أبو شنب أقلهم شراً حيث كان يرفض ذبح نور والتخلص من
الوزان (ص79)، وكأنه يقول لنا (حنانيك بعض الشر أهون من بعض)، إنه وصف دركات من
الشرور، ونجد شخصية "ألبرت" الذي يتبدل موقفه من العنصرية لمحبة العربي
"شوكت" زوج ابنته (ص 99)، ونجد العمدة عطوان يتبدل موقفه من الغيرة من
نور ص 69 إلي التفاعل مع حادث مقتله والتعاطف معه، مما يمنح أن المحبة والقدوة
تنمح واقعاً مغايراً، وأحياناً نجد تحول الشخصية أكثر من مرة مثال: "رجب
جودة" رفيق "نور" في صفحة 55 حالماً بخدمة قريته في مجال الهندسة،
ثم في صفحة 132 نجده موظفاً مرتشياً، ثم نجد تحوله الجديد صفحة 145 مرة أخري للخير.
أما شخصية "غزلانة" التي تحولت من ريفية ساذجة
إلي ساقطة تعبث بقيم النقاء والطهر، فتقد الملمح الهام الذي تشير له الرواية أن
التحولات الفردية قد تأتي من طبيعة شريرة وقد تكون نتيجة مباشرة للفقر والمرض
والجهالة والقهر، وأن تلك التحولات الفردية منتجة للتحولات المجتمعية، وأن دروب
التغيير بالدماء والعنف قاتلة للمجتمعات فتغدو الضمائر ميتة، يقول الرواي المحلل
الاجتماعي تعليقاً علي الحدث المفصلي "مذبحة نور": (وربما كانت تلك
الحادثة هي بداية تغير الطباع والسلوك بالقرية، فرغم أن القرية لا يتجاوز عدد
سكانها في ذلك الوقت بضعة آلاف نسمة إلا أن مشرح الجريمة الأخلاقية ربما لا يضم سوي "غزلانة" و
"الوزان" أما الجرائم الأخرى فهي بقايا قهر الإقطاعي العمدة "عطوان
المر" وبعض الحوادث الحياتية – ص 78)، ويدمغ بعد قليل في عبارة لافتة:
(اختلطت الأوراق وتحول السلام والأمن بالقرية إلي كابوس ص 79)، وتستغرق الرواية في شرح تبدلات الواقع و
(ينابيع العسل المر) بتعبير الرواية بتقديم مشكلات المجتمع من شبكات الفساد (كيف
تحول الفساد من انحراف فردي إلي بنية مجتمعية؟ كما قال كتاب اقتصاديات الفساد أو
ما يعرف "الإدارة بالفساد")، وسيادة القيمة المادية بديلاً للقيمة
الروحية والخلاقية، وسرقات الأراضي، والبطالة، والتلوث البصري والسمعي ومعالم
التشوه في البناء والطرقات والنفوس جميعاً، ومرض الفيل في جهاز الخدمة العامة
الإداري، والنزعة الاستهلاكية واحلالها محل قيمة العمل الريفي المنتج، ومشكلة
إغراق المجتمع بالمخدرات، وبذلك تدخل الرواية فيما قيل عنه (أدب الفساد الجميل) او
ما اسميه (وجبة مرة شهية التناول)، ويصل الأمر إلي ملمح ذكي عند دراسة فكرة مراعاة
مشاعر الآخرين في الأتراح والأفراح.
الفضاء الريفي
المكاني بطلاً روائياً:
ويشارك شخصيات الرواية المكان ببعده
الاجتماعي في الأساسي، فوصفه المادي يمنح فكرة أدب الهامش حيناً، والهوية المصرية
حيناً آخر، ففي وصف منزل "فوزية" الطيني (ص 10 و ص 11)، نجد الفقر
مبتهجاً بهذا الوصف المعبر عن عالم الفقر حيث لا راحة ولا رفاهية، وسبق الحديث عن
النيل كدال مصري أصيل لطبيعة المروءة والعطاء لدي المصري قبيل تجريف شخصية تحت
طرقات الواقع الثقيل، وأنه رغم فقر الجيوب كان هناك غني الأرواح بمنظومة قيمها
النابهة، يقول في عبارة هامة: (كانت الضحكات تنفجر عذبة علي شفاة قاحلة ليمتزج
الرضا بالألم، والقناعة بالأمل ص 11)، وكأنهم
قد عقدوا معاهدة سلام مع الحياة القاسية، وتوحدوا مع الطبيعة وتفيض الرواية بامثال
هذا التقنين الاجتماعي الذكي للمصري الفطري البسيط قبل أحقاب التحولات الداهمة.
تكنيك التشويق في
الرواية:
تحاول الرواية من خلال خواتم التقسيمات
الثلاثينية إقتناء فكرة التشويق عبر المسلسلات، فنجد العبارة التي تحمل سؤالاً
قلقاً ينتظر الإجابة المنشودة، وكأن الروائي ذاته ينتظر الإجابات مع القراء، فيقول
مثلاً في نهاية التبويب السادس المعنون (السقوط): (تري كيف تنتهي تلك العلاقة وما
هو مصير غزلانة؟ - ص 50)، بل نجد تعارضاً بين إرادة الراوي وإرادة "الوزان
البقال" الشخصية الروائية بين الحل المثالي والذي تحقق في الواقع الروائي كي
تستمر الرواية بالطبع، في ملمح طريف لهذا الحوار السردي علي مستوي باطن الراوي،
يقول الراوي: (تفاصيل الحقيقة كاملة كانت ملك "الوزان" بقال القرية
وابنه "شاهين"، وكان من الممكن حل المعضلة وتقديم الجناة للعدالة ولكن
"الوزان" يابي إلا ان يكون مزوراً وانتهازياً وعربيداً – ص 76).
ونجد فكرة إلقاء العبارات التي تحمل
استشرافاً للمستقبل الروائي منتجة في معمل الواقع البائس، يقول الرواي: (علي حافة
الترعة ومع آخر ضوء بعد الغروب ينطلق نقيق الضفادع يعزف سيفونية موسيقية تمتزج
بظلام الليل، فيمتلئ المساء ثورة وغموضاً – ص 16)، واستشراف دور نور كمعني بطل في
الرواية، يقول: (نور سيكون بمثابة العمدة الفقير للقرية وسوف يديرها حتي لو كان
قابعاً في كوخ – ص 30)، وياتينا صوت الراوي العليم في صفحة 49 يرسم نذر الشر في
أفق الحدث الروائي المفصلي الهام القادم "مذبحة نور": (هل القرية في
انتظار كارثة مروعة أخري؟)، بل استعمل فكرة التخاطر وما وراء الطبيعة وأسرار
الرواح يقول: (ما سر ذلك القلق وهذا التوتر؟ عادة قلب الأم يشعر بما لا يشعر به
أحد – ص 59)، ومرة أخري عن والد ووالدة نور (ربما كانت أرواحهما تشعر بشعور غامض
لا يمكنهما تفسيره – ص 83)، في استشراف روحي أثير في الرواية.
كما نجد فكرة
تطوير وتسريع الإيقاع الروائي بظهور سريع جداً لعدالة السماء بما يشفي فؤاد القارئ
الغاضب من مشهد مذبحة نور المعبر غعن قمة التحول الاجتماعي
كما نجد التسويغ
للرواية الاجتماعية بلقطات ساخرة مثال مشهد صخري لطلب الماء وشرب الغفير بشندي
وزوجته عناكب (ص 15)،
اللغة في الرواية:
وتحمل سفينة الرواية لغتها لتقدم عناصر
بنائها، وتتمثل اللغة في السرد والحوار والوصف، وسبقت الإشارة لمشهدية الوصف فيما
يتصل بالفضاء المكاني الريفي، وآلة السرد فيما يتصل بالراوي، ويتبقي الحوار،
وانتقي الكاتب منهجية ازدواجية لغة الرواية فجعل ما دون الحوار باللغة الفصحي،
واختار اللغة العامية للحوارات التي انتشرت بنسيج الرواية، وأرى أن انتقاء الكاتب
لتلك اللغة في الحوار ليمنح إشارة وتضمين إضافي لخصائص اجتماعية للشعب المصري
البسيط، باختيار مفردات من واقع العامية المصرية (خيخة / يالهوتي /
خاتمة (مقولة
الرواية ونثر شعري):
بقي أن نشير لبعض الأخطاء الطباعية مثل التصاق بعض حروف
الكلمات خاصة في الثلث الأول من الرواية، وغلبة صوت الروائي أحياناً قليلة صوت
راويه تحت ضغط الحماسة لمضمون متنه الروائي الاجتماعي.
إن الرواية تقول
إجمالاً لا تيأس من روح الله واصنع أنت الحلم الجديد الذي يناسب عصره ويتفاعل معه،
إن عنوان التبويب الأخير ملخص علي التريب المقصود لإقوال الرواية عبر حدي العنوان
(الغدر / والحلم)، ولننشد جميعاً مع راوي أحلام الملائكة: (عادت روحه بعدما أدميت،
انبعث نور الأمل في القلوب البائسة – ص 166)، وأقرأ معي الصفحة الأخيرة من الرواية
حتي عتبتها المصاحبة بغلافها الأخير بداية من مقولة حمدي: آه يا بلد مجروحة يا بلد
مقهورة ...، حتي مقطوعة النثر الشعري (طغي هدير الحلم فوق الجراح).
تعليقات
إرسال تعليق