ترجمة "سامية توفيق" بها إبداع، وحسن اختيار، وتعريب لا يخل بالمعنى.
دراسة نقدية بقلم : صلاح شعير
أصدرت الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة "حكايات
الوسادة" للكاتب الروسي ناتالي
كورتاج، وهي مجموعة قصصية للطفل من ترجمة دكتورة "سامية توفيق"، ومن
اللافت للنظر أن المترجمة تتمتع بحاسة أدبية شديدة التميز برزت في قدرتها علي
التعريب الذي لا يخل بالمعني، حيث أن التصدي لترجمة مثل هذه الأعمال الأدبية يتطلب
مترجم ذو حس أدبي رفيع، وقدرة على الاختيار لعرض ثقافات الآخر علينا بالشرق؛ وبهدف
مد القارئ العربي بمادة أدبية شديدة الخصوبة، سوف تسهم في إمتاع المتلقي والناقد،
والمؤلف من خلال انتقاء الأعمال التي تعلي من شأن منظومة القيم، وهذا ما طبقته
المترجمة عندما قدمت لنا "حكايات
الوسادة" التي ضمت ثماني قصص شديدة الروعة، امتزج
فيها الخيال الخصب بجودة البناء الفني، حيث أن
لحظات التنوير بها أقترنت بجودة المضمون،
والذي سوف يتم عرضه بإيجاز كالتالي:
حلم الحصان:
في هذه القصة قد كان حلم الحصان أن يجد من
يحمله للترفيه عن نفسه كما يحمل هو البشر، وتمنى الحصان أن يحمله القارب ليعبر النهر نحو الشاطئ الآخر،
وقد تحقق له هذا الحلم بعد بذل مجهود كبير، ومن ثم كان التخطيط هو الوسيلة لتحقيق
الهدف، وتحمل تلك القصة في طياتها كل ما
يحث كل طفل على صناعة الحلم المناسب لعصره، حتى يكون للإنسان غاية تسهم فى
البناء، والتقدم، وذورة الحدث تتجلى
بإعلاء قيمة العمل، وهذا أفضل ما يمكن زرعه في وجدان البراعم في مرحلة الطفولة
المبكرة.
قصة مقشتين:
تدور أحداث القصة في إطار
مشوق حيث أن المقشة الطويلة
التي تتمتع بالحرية والعمل في تنظيف الشوارع تتمنى أن تكون مثل المقشة القصيرة
التي تعمل في تنظيف الشقق بعيدا عن عوامل التعرية من برد وحرارة، وأن المقشة
الصغيرة تمنت الحرية حتى في ولو عاشت في ظروف مناخية قاسية، وتمنت كل منهما أن
تلتقي بالأخرى، ويحدث ذلك بالفعل بعد أن تمردتا على الواقع، وتعكس القصتان فكرة الصراع الأزلي بين معسكرين
متناقضين، الأول هو المعسكر التقليدي الذي يري أن الاستقرار هو الغاية؛ حتى في ظل القيود، والمعسكر الآخر الذي يرى أن
الحرية أسمى قيمة يمكن أن يتمسك بها البشر، وتوحي نهاية القصة بأن فكرة اللقاء بين الناقضين يمكن أن تحقق
التوازن في الحياه.
بيت القطة القديم:
في هذه القصة نجد أن المنزل القديم المعروض
للبيع يرفض أن يقطنه إلا الأخيار؛ اللذين
يؤمنون بضرورة أن يتمتع البشر بقيم الرحمة
تجاه الحيوان، حيث القطة التي تسكن في هذا المنزل المهجور، والذي يصدر أصواتًا
تزعج أي مشتري يريد إقنائه؛ إذا لمس فيه ما يبشر بكرهه لصديقته القطة، فيتصور
المشتري أن البيت مسكونا بالعفاريت، فيتراجع عن الشراء، حتى يأتي آخر إلى أن يجد
الرجل الرحيم، الذي يداعب القطة، فيرحب به أشد ما يكون الترحاب، وأهم ما يميز
هذه القصة هو تصاعد الخيال من خلال تدفق
الأحداث السريعة، والحبكة الجيدة، وكل ذلك تم توظيفه لخدمة فكرة الرفق بالحيون،
وهذا المضمون قيمة أخلاقية عليا، لأن من يستطيع أن يحمل هذه الأفكار الإيجابية
تجاه الحيونات سيكون كالملاك مع كل أخوته في الإنسانية.
زهور الربيع:
تعكس هذه القصة لقطات رومانسية حالمة؛ تتجلى في حوار الورود مع بعضها البعض، وتصور مدى الابتهاج من قبل البشر والطبيعة بقدوم
فصل الربيع، لأنه فصل النماء والخير، والجمال، حيث فرح الزهور تفرح بكلمات الإطراء التي يطلقها الناس
عليها، وهذا يؤكد أن مفعول الكلمة الطيبة،
والذي يمكن أن يلطف أجواء التعامل بين بني
البشر، فالكلمة الرقيقة لها مفعول السحر لدى المتلقي، ومن هنا سوف يتأكد لدى الطفل أن من يزرع الخير
يحصد الثناء، وتلك المعاني النبيلة لو شكلت الخلفية الثقافية للبراعم سوف تتمتع
الأجيال القادمة بالصفاء الروحي، وهذا
يؤدي إلى التوازن النفسي في المجتمعات.
الذبابة المرحة:
ربما تمثل هذه القصة منحى مختلف في التعامل
مع الذبابة كحشرة، لأنها أنها تطرح المشكلة
من وجهة نظر الذبابة نفسها، وهي بالتأكد وجهة نظر معاكسة للمألوف، كما أننا كبشر
نعتبر أن الذبابة شديد السخافة، ولكن الكاتب في هذه القصة تكلم بصوت الآخر، ليقول
لنا أن تطفل الذباب علي طعام البشر وما يخلفه ذلك من تلوث أنما يحدث بقصد استمرار
هذه الكائن في الاستمتاع بالحياة، حتى البعوضة، والتى تسبب أشد الضرر لبني
الإنسان، تتعاون مع الذبابة، أعداء البشر
من الكائنات المعادية يتحدون من أجل البقاء، وهذا يحتم علينا كبشر التعاون سويًا
ضد كل ما يهدد الإنسانية من أجل الاستمرار
والحياة الكريمة، وهذا المفهوم يجب أن يكون قاعدة سلوكية عامة تغرس في أطفالنا
غرسًا.
البئر والسحابة:
تتكلم القصة بشكل شيق، وغير مباشر عن دورة
الحياة، حيث أن الماء هو أصل الحياة على كوكب الأرض، بداية من تبخره من البحار
والمحيطات المالحة؛ ثم تصاعده نحو طبقات
الجو العليا ليكون السحاب الذي تحركه الرياح ليسقط مطرًا يخصب الأرض بالنماء،
ومشكلة البئر أن المياه بداخله قد نضبت بسبب الشح فى المطر، ولذلك قد هجره
الناس، وقد حزن البئر من ذلك الجفاف، وظل
يشتكي حتى عادت صديقته السحابة بالخير، وهطل المطر. القصة تبرز أهمية الماء، وتطرح
على عقل الطفل في سن مبكر خطورة مشكلة الجفاف، حتى يبكر، وفي ذهنه أبعاد هذه القضية؛ ليجد حلولا لها،
لأن مصيره مرتبط بالماء، وفناءه مقترن بالجفاف، ومما لا شك فيه أن إيجاد حلول لهذه
المعضلة سوف يحمى البشرية من الصراع في حروب طاحنة من أجل اقتسام المياه في
المستقبل.
الزعنفة السعيدة:
رغم أن هذه القصة في إطار تثقيفي تسرد
مشتقات وتداخلات الألوان، وقوس قزح، ثم تدور الأحداث بعد ذلك في بركة مياه أخذت في
التلاشي، وبها سمكة تكاد أن تموت، ولكن
الكائنات الآخرى تتعاون من أجل إنقاذ هذه السمكة،
فتقوم العناكب بنسج الشباك لحملها وجرها
نحو النهر المقابل حيث الحياة، وحتي يتحقق
الهدف كان لابد من التعاون مع الضفدعة، والزعانف لنقل السمكة إلى المياه الجارية،
وتفشل مجموعة الإنقاذ مرتين، ولكنها تنجح في المرة الثالثة في تحقيق الهدف، وتحث هذه
القصة الطفل نحو فكرة التخطيط المقترن بالعمل،
والصبر. تلك المعاني ضرورية، ولازمة لبناء
عقول الأطفال، فلا يمكن لأمة أن تسعى نحو تحقيق النهضة دون بث تلك القيم في عقول
أطفالها، وهذا ما تهدف إليه القصة.
القضية المشتعلة بهذه القصة هي أن شجيرة على
حافة النهر تكاد أن تموت من شدة العطش، فتقوم البطة بالتعاطف من منظور أخلاقي مع هذه
الشجيرة الصغيرة من أجل إنقاذها من الموت، فتستعين بأهل التخصص للمعاونة، ويقوم
جارها "القندس" بحمل الماء بفهمه من النهر ويسقيها، وكان هذا هو الحل
السريع، أما الحل الأمثل هو توصيل الماء بصفة دائمة إليها، وتسعين البطة بالكائن
الحي المعروف باسم "الحفار"، وفبعد تقدير المسافة يبدأ الحفر،
وتنجح عملية توصيل المياه إلى الشجيرة، وهذا يتفق مع فكرة التنمية المستدامة. تعلي
هذه القصة قيمة الخلق في نفوس البراعم،
لأن الاعتصام بقيم النبل عبر العمل والتخصص هو غاية البشر، وذلك فيلة بتحقيق أحلام النهضة، وهذا الفكر المستنير
يسمح بنجاح برامج التنمية.
دور أدب الطفل في تعافي روسيا:
بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي جرّاء الفساد
الإداري تمكنت روسيا من التعافي، وذلك بفضل نجاحها السابق في بناء الإنسان الروسي منذ مرحلة
الطفولة؛ عبر برامج تربوية شديدة التميز
وكان من بين هذه البرامج أدب الطفل، الذي
نجح في غرس قيم الوطنية، والتعلم، والتعاون،
والتخطيط، والحث على الإبتكار،
وغير ذلك من قيم إيجابية، ومن ثم يعد بناء عقلية الأطفال هو الفيصل بين
أمة متحضرة، وأخري متخلفة، ومن هنا يمكن القول بأن كل دولة لا تحترم الأدباء الذين
يكتبون للطفل، والمعلمين في في مراحل رياض الأطفال، ومراحل التعليم الأساسي، هي دولة
فاشلة، ومن ثم بات من الضروري على المجتمع
تفعيل البرامج الأدبية، والتربوية لبناء عقلية الطفل من أجل صناعة مستقبل العالم
العربي.
وبعد هذا يجب علينا جميعًا أن نحي الدكتورة "سامية توفيق"
على ترجمة هذا المجموعة القصصية القيمة، وكذلك كل التقدير للهيئة المصرية العامة
للكتاب على نشرها، واتاحتها للقارئ
العربي، فالثقافة الحقيقة لا تنتعش إلا
تحت إدارة الدول.
تعليقات
إرسال تعليق