مقالات
فن المزحة، هو فن من فنون الشعوب الراقية، وهذا هو الفرق بين شعب وآخر، البعض إذا لم يفهم حقيقة المزحة الفنية يراها إهانة، في حين أنها عكس ذلك، فهي فن يلتقط اللفظ، وينسج حوله بنيانًا فكاهيًّا آخر يعتمد على الخيال والمفارقة، وهناك الكثير من الأبحاث والكتب في هذا الشأن.
ومن بين المداعبات ما قاله
أمير الشعراء "أحمد شوقي" مداعبًا صديقه شاعر النيل "حافظ إبراهيم"،
في البيت التالي:
أودعت إنسانًا وكلبًا وديعة....
فضيعها الإنسان والكلب حافظ.
وهذه المداعبة قد تبدو
لدى بعض المسطحين على أنها إهانة لشاعر النيل "إبراهيم حافظ"، بيد أن
الحقيقة غير ذلك تمامًا؛ لأن التدخل في المعنى قد يصور ذلك عند البعض بسبب ضعف
الثقافة، أو بسبب الجمود الفكري، والفقر اللغوي، وموطن البلاغة في هذا البيت هو
السخرية من البشر بسبب غدر بعضهم بالبعض، والكلب رغم أنه من الحيونات إذا ماقورن
بالبشر فهو الوفاء المفقود، الذي يرفع عدة درجات عن الإنسان جرّاء حفظه للأمانة،
وكلمة حافظ هنا تعني الحفظ، ولا تعني الشاعر إبراهيم حافظ من قريب أو بعيد، وهذا
التداخل من سمات البلاغة في التعبير.
ونظرًا لأن "حافظ إبراهيم" عليم باللغة
وفنون الشعر، كان رده في إطار المقابلة بمزحة شعرية متداخلة عندما قال:
يقول الناس إن الشوق نار
ولوعة... فما بال شوقي اليوم أصبح باردًا.
وعلى نفس المنوال جاءت
كلمة شوقي لتعبر عن حالة الفتور في المشاعر عندما أتبعت كلمة باردًا، وهي رغم
التشابه في النطق والكتابة مع كلمة "شوقي" كاسم لا يقصد بها الشخص ذاته.
وهب أنك طالعت شطرًا
من مقطوعة شعرية، لشاعرة: "أني حبلى بالأمل"
ورددت مازحًا:" ربنا
يقومك بالسلامة وتجيبي قصيدة اسمها الأمل" ماذا سيكون ردها، هل تتعامل مع
الجملة بفن المقابلة؟ ربما يكون ذلك، وربما لا تسعفها الثقافة، وتتصور أن ذلك
تهكمًا إذا كانت في طور التكوين الثقافي.
وسوف تغضب إذ لم تفهم
المقصود من التعليق الممزوج بالفكاهة، فحقيقة الشعر أنه كالولادة المتعثرة، ومخاض
هذه الولادة هي القصائد، وهنا المفارقة تعتمد علي المزج بين تداخل المعاني، بين
الولادة الحقيقية، والولادة الأدبية، فإن كان وجه الشبه بين الاثنين هو ظهور جنينين
للحياة، بيد أن الاختلاف هو أن أحدهم
بشري، والآخر أدبي.
وقد يكون من التسرع عدم إدراك جوهر التعليق؛ لأن
البلاغة والخيال هما بنيان الشاعر، وجزءٌ من الثقافة الأصيلة لدى أي كاتب، ربما
التريث لبرهات للوقوف على المعنى يكون أوقع، فالأمر لا يعدو كونه طرفة أدبية، تعتمد
على التداخل، ودور العقل هو فصل هذا التدخل، ودائمًا ما يقوم أهل الأدب بصناعة مثل
تلك الطرائف شعريًّا، لفظيًّا، في اللقاءات، والمنتديات الإلكترونية، وعدم قراءة مابين السطور، والتميز بين المعنى القريب،
والمعنى البعيد، عادةً ما يولدان سوء الفهم.
ومن النوادر الفنية
التي يتم تداولها أن أحد الأثرياء أقام وليمة، لرواد الأدب والفن والمجتمع، وكانت
الفنانة "أم كلثوم" كوكب الشرق من المعازيم، وبجوارها أحد الشيوخ، كل
أصناف اللحوم فوق المائدة ومنها "حمامة" محشوة بالفريك لكل ضيف، وبعد
أكل الشيخ حمامته، قام بمغافلة "أم كلثوم" وأخذ حمامتها وبدأ
يأكلها، وبعد برهة سألت كوكب الشرق والحوار بالعامية المصرية: حمامتي راحت فين؟
ونظرت للشيخ تستنكر فعلته.
فرد الشيخ: هو انتي
لكي حمامة؟
ففاض الجمع بالضحك،
وكانت المقابلة أن الرد تدخل مع الحمامة كطعام، وما يطلقه المصريون علي اسم العضو
الذكري للطفل، فهو بالتراث المصري يُكنى بالحمامة تأدبًا.
ومن هذا العرض المختصر
يتضح أن المزاح الأدبي هو لونٌ يعتمد على المفارقة كالنكتة، بيد أن هناك من
يتقبله، وآخرون لا يقبلون به، وللناس أذواق وثقافات متباينة، بيد أن المصريين من
أشد شعوب العرب تفاعلًا مع المزحات الأدبية الفنية انطلاقًا من وعي ثقافي عميق.
تعليقات
إرسال تعليق