الناقد : خالد جودة |
دراسات
دراسة تقدية : خالد جودة أحمد
دراسة تقدية : خالد جودة أحمد
يتسم
نص (الظمأ والحنين) للكاتب “صلاح شعير”، بتعدد العتبات المصاحبة، أو ما يطلق عليه
"النصوص الموازية"، حيث يحمل الغلاف تصنيفين للعمل (أدب الخيال
العلمي) و (رواية للفتيان)، بينما تم التدوين في الهامش العلوي للصفحات
المائة (تقريباً) التي تشكل المتن الروائي ما يجمع بين التصنيفين معاً (أدب
الخيال العلمي للأطفال)، وفي عتبة أخري نجد أن الروائي يصدر العمل بكلمته
ممارساً دور الناقد كمفسر لعمله سواء في قيامه بتصنيف العمل -كما سبقت الإشارة- أو
الحديث عن السرد في أدب الخيال العلمي، بل وتقديم شرحاً عاماً مختصراً حول قصدية
الأدب ب (إلتقاط الوميض بالخيال الأدبي لتحويله إلي يقين)[i] و (بث الثقافة الواعية
بثاً في أوصال المجتمع)[ii]، ويرمي الكاتب بالوميض
شعاع الأمل يرتدي حلة الحلم، ولذلك أتت عتبة "الغلاف الأخير" لتقدم
الخلاصة من العمل أو النافذة المضيئة لداخل النص، وهي السطور الأخيرة، والتي تتعطر
بالصور المجازية المركبة، يقول: (بالأمل سوف يحملنا الشوق نرتدي حلة الحنين،
لنعود فوق مراكب الصبر إلي حضن الحبيب، وسف نجدف باحلامنا البيضاء نحو الربيع،
وعندئذ ستقبل قلوبنا تراب الشرق، وتأذن السماء بلحن الوفاء من جديد)[iii]
شاعرية السرد
واستعمال
التعبير الشاعري جاء في استهلال الرواية في فقرتها الأولي، فهي فقرة بلاغية
بإمتياز، ننتقي منها عبارة علي سبيل المثال للنمط البلاغي المكثف، ففي هذه العبارة
نجد "شخصنة" الأرض، يقول: (والأرض تكاد تلفظ كل الحمقي، فلم تعد تطيق
أحدا منهم فوقها، ولولا أنها لا تريد أن تضم الأغبياء بين أحشائها، حتي لا تتلوث
روحها بسواد قلوبهم)[iv]، الشاهد أنه تناثرت تلك
التعبيرات في إنحاء الرواية حتي الخاتمة، وقد شكلت البلاغة قوسين حولها، كما أن قصة الحب بين "وفاء"
و "فارس" بطلي الرواية – كخط
درامي ضمن احداث الرواية- أتت لترطيب الناحية المعرفية والعلمية ، واستعمال المجاز
الشاعري ودراما الحب هو أمر مشهود في أدب الخيال العلمي قد يستعمله بعض كتابه
لتوصيل رسائلهم العلمية، أو كما يقول الروائي: (في جو علمي يمتزج بالرومانسية)[v]
إن
استعمال المجاز في الرواية لم يأتي فقط في إطار شاعري عذب لتلطيف الناحية العلمية
الصرفة، بل أتي في إطار التقبيح للتنفير، كما آتي ليس كحلية للتزيين وإنما للكشف
عن الخطورة التي تنتظر المتقاعسين في المستقبل ،ولدق جرس الإنذار بالكوارث
القادمة، يقول: (تصرخ الأرض أسفل هيكل الشجرة من العطش، وكأن الشقوق في جوفها
أصبحت كالطعنات المغروسة في الروح القاحلة . مظاهر الحياة تجمدت، وما بقي من بشر
يتحركون علي الأرض كأنهم مصلوبون بالقحط يتمنون الموت هروباً من آلام الظمأ وقهر
الفاقة)[vi]
تعدد الخيوط الدرامية
وقد
تعددت الخيوط الدرامية في الرواية علي قصرها، حيث جاءت كطرقات سريعة لعدد من قضايا
واقعنا السياسي والاجتماعي والإنساني، وجاء تشكيل الشخصيات الروائية بألوان حادة
ناصعة (أسود / أبيض)، لإبراز قيمة "المفاصلة"، فمثلت مجموعة منها جانب
الخير، ومثلت أخري جانب الشر، ودارت رحي الصراع بينهما علي مستويات: صراع الحقد في
مقابل النقاء، صراع التفاني في العمل العام والعطاء بلا حدود لبطلي الرواية (فارس
ووفاء) في مقابل نهب مقدرات وثروات الآخر (مدينة الأثرياء ودولة واحة الشمال
الكبير)، صراع العلم في مقابل الجهل، صراع التعصب في مقابل التعاون وتفتيت
العداوات، لذلك أتت الأسماء لتطابق سمات الشخصيات الروائية، فأبطال الخير زينب
الشهيدة، ووفاء ابنتها، وفارس المختار، وصادق المختار، ووقد جاء لقب المختار بالرواية
بهدف إستدعاء أرثًا تاريخيًا من النضال، وأبطال
الشر هم العقرب، وهند الحافي، وهذا التناول بطريقة الوضوح والقصد إلي التبسيط يمثل
خطاب أدبي مناسباً للمرحلة العمرية التي يستهدفها الكاتب.
والخطاب
الروائي القائم علي تعدد العتبات والوضوح في التناول، وصراحة الأسماء وعدم
مواربتها، وتجلية الصراع بطريقة فنية، يناسب الطفولة كما أسلفنا، كذلك العناية باضافة
نواحي معرفية سواء في المتن ذاته، أو باستعمال الهوامش لتحقيق هذا الإثراء، فنجد
معلومات حول عدد من الأعلام مثل "ارسطو" و "عمر المختار"،
ومعلومات حول المخاطر البيئية بالحديث عن النفايات النووية، ومعلومات حول القنابل
الفراغية وتطورها، ومعلومات حول "الأوزون" ومركبات مثل
"الفورمالهيد"، ومعلومات حول علم الكونيات، وغيرها.
الثراء المعرفي بالرواية
ولا
شك أن النواحي المعرفية والقيمية أمور أساسية في الكتابة للفتيان، والكتاب تحدث عن
مجموعة من القيم لا تخفي علي القارئ منها إذكاء روح التعاون والإتحاد، وقيمة العمل
الجاد، وغيرها، حتي عندما وجد الروائي فكرته العلمية حول التسريبات المخزنة في
الغلاف الجوي وحتي ينفي منها معني التجسس الغير أخلاقي إشار انها فقط للحماية ولا
تتناول الأمور الشخصية.
وإذا
كانت الأهداف هي الأحلام قد ُرسمت لها
المواقيت، فإن الكتاب يحمل فكرة التخطيط علي مستويات متعددة، باعتباره الطريقة
العلمية لمواجهة مشكلة باتت مؤرقة لعالمنا المعاصر، وهي مشكلة ندرة الموارد
المائية، ويبدأ الحدث الروائي بالمدي القصير بالتوفير العاجل لشحنتين من الماء
لواحة "الزيتون" الظمآي، والحلول المرحلية بتوفير المياة لستة أشهر بحفر
البئر الجديد، أما العلم فيمثل في رؤية السرد الحل الاستراتيجي بعيد المدي في
استشراف تكنولوجي للمستقبل، كما قدم رؤية علمية مثلتها موقف (الهيئة الدولية)
مانحة الجوائز، للحلول المرحلية وعدم الوصول سريعاً لمواجهة صفرية مع الشرير
الرأسمالي تأكل الأخضر واليابس، بل التحيز إلي زمن يمكن به تدبير أمور الهيئة في
ظروف أكثر مناسبة، حيث أن هذا الشرير يحاول استعمال قوته المادية للهيمنة علي
الهيئة العلمية المحترمة.
ونعود
للعتبة "الأم"، لنجد ثنائية "العنوان" الذي يحمل حدين متضادين
(الظمأ / الحنين = الإرتواء)، ويمثل الظمأ هاجرة القلوب بسواد الأحقاد بين الأشقاء
العرب، كما يمثل أيضاً معناه المادي حرفياً، كما يمثل الحنين أرتواء القلوب
الظامئة للسلام. وهذا التوازي أو تعدد المعاني يمثل تقنية "التماثل
السردي"، من خلال التوازي بين عالم الإنسان وعالم الطيور، ومكر المستخرب
بالأوطان، ومكر الأشرار بالحبيبين، والتماثل بين الأرتواء بالماء والإرتواء
بالعاطفة، يقول: (الأوصال الظامئة للحنان)[vii]، ويقول: (واشتعل
الموقف وسيطر الحقد علي كثير من الناس، ورغم أن العطش كان يضرب الأكباد بشدة كان
الحقد في النفوس أشد ضراوة)[viii]
جغرافيا الخيال
وحيث
أن أدب الخيال العلمي يحمل في ثناياه تصورات جغرافية قيمية خيالية حول اللامكان
"اليوتيبيا" أو المدن الفاضلة، وضدها أي مدن الشر، فنجد في ظلال الرواية
بين أيدينا تعدد للأماكن في عالم الغد، بصورة رمزية تمثل واقعنا اليوم بإشارات
واضحة، فنجد "واحة النيل"، وواحتي البطولة "الزيتون" و
"البلح"، "مدينة الأثرياء"، "بلاد التلوث"،
"واحة المهراجا"، بل استعمال أماكن غرائبية مثل "واحة
التنينين"، كما قدم أيضا أسماء لأماكن واقعية.
مدينة الأثرياء |
وهكذا
حملت الرواية أسماء أماكن متعددة، كما حملت أسماء شخصيات متعددة، تظهر كملمح خاطف
دونما تمهيد أو إطالة، بل يتم استدعائها من قبل السارد العليم المهيمن علي مجتمع
السرد منذ الحرف الأول حتي الحرف الأخير بطريقة تمزج الحوار بالسرد، حتي مشهد
الاستبطان تم تجسيده بطريقة مسرحية عندما حاورت هند الحافي المرآة، وانتهت بتشظي
الشخصية والمرآة معاً.
وهذا
الإستدعاء السريع والحاسم يتم ليس في إطار رواية الحدث أو رواية الشخوص، بل في إطار
خدمة الفكرة بالأساس، وهو إيضاح أبدية الصراع، وتجهيز الناشئة لاجتياز هذا
المستقبل بسلاح العمل الجاد والعلوم معاً.
إن
الرواية مزجت بين العمل الفردي والعمل المؤسسي، حيث نجد ان العمل طوال الرواية قام
به بطلي الرواية "بطولة الفرد"، لكن نجد أيضاً الإلماح إلي بطولة روائية
للمؤسسات النابهة (نادي العلوم)، و(لجنتي المرأة)، (الهيئة الدولية لتطبيقات علوم
البرمجة)، (المجلس الشرعي)، وضدها من مؤسسات ناهبة شريرة من عينة (بنك الأغنياء
الشمالي)، كما قدمت فكرة "التمكين" الإداري و "التوريث" العلمي
ببزوغ نجم الباحث "عبد الودود العربي" في الختام.
استشراف المستقبل
إن
استشراف المستقبل هو إكسير أدب الخيال العلمي، الذي ينهض من الواقع برصد وتجميع
شواهد واقعية والإرتقاء عنها لرسم ملامح الحياة القادمة بتطورها وبؤسها معاً، وإلا
انتقلت إلي نطاق الفاتنازيا أو "الخيال الموغل" بتعبير معجم مصطلحات
مجمع اللغة العربية، إن الخيال العلمي المقنن في بواعثة بوقائع الحاضر، ونجد في
الرواية التي بين أيدينا أن زمن الاستشراف
عام 2120، أي بعد قرابة قرن من الزمان، حيت تتنبأ الرواية أن جامعات شنغهاي
وبنوباي ستكون هي رائدة العلوم عالمياً، وحول المنزل العصري المستقبلي (الهرمي)،
والديكور الحديث، والهاتف الفضائي وآلية عمله، والسياج الهوائي لحماية المدن بما
يذكرنا بقبة مدينة السيد (هومر) في رواية السيد من حقل السبانخ لصبري موسي،
واستعمال الأوزون للتطهير، والملاحة الجوية، وتحلية مياة البحر المالحة بالطاقة
الشمسية، وأفاق التقدم الصناعي والطاقة البديلة، والصناعة العسكرية، وأسلحة القتل
الإنتقائي، وتطوير برامج الإتصال، وابتكار (ضد الجاذبية) من خلال (تكنولوجيا
التنافر العكسي)، والتنبؤ بكوارث وشيكة حول حروب المياة الطاحنة، ونضوب النفط من
بلاد العرب،.... إلي آخره.
وحملت
الرواية قضايا علمية قام حولها متن السرد، وحمل عبئها بطلي الرواية باعتبارها طوق
النجاة في عالم الغد العاصف، منها ما تم إنجازه في الحدث الروائي، مثال جهاز ترجمة
أصوات الحيوانات والطيور، ومنها ما استمرت رحلة إنجازه عبر الرواية حتي الخاتمة،
وهو جهاز إنتاج الماء العذب من الهواء الجوي بطريقة اقتصادية، والآخر هو جهاز
"التسريب" بإستدعاء الأشكال والأصوات من الفضاء الخارجي، باعتبارها حلاً
لإحدي عقد الرواية والوصول بها إلي لحظة التنوير في أسلوب السرد بطريقة النصف قوس،
حيث انها طريقة الحكي المشوقة والتي تتناغم مع التوتر السردي بين المحنة ولحظة
الإنفراج.
ومن
الملاحظات النقدية نود أن نشير لبعض
الأمور التي نراها، منها نواحي متعلقة بترحيل ارقام الهامش أحياناً في مستهل السطر
التالي، بينما يجب ان تكون معلقة في نهاية المفردة الشارحة لها، ومنها استعمال مفردة
(سوياً)، وصحتها (معاً)، كما أنه ورد بصفحة رقم 69 أن العقرب لم يكن يعلم بحيلة
الحبيبين للتغلب علي تآمره بالتفريق بينهما وعقدهما الزواج، حيث سبق بصفحة رقم 54
أن وفاء حلمي هاتفته لتخبره بخبر زواجها بفارس بعد قدوم الماء للواحة، كما نري أن
التبويب الفرعي (الفخ) بمثابة تكرار.
الخلاصة
وأن هدف الرواية تحقق عندما تيقن الغراب الأسود
انه لا يمكن هزيمة قوم أصبح العلم سلاحهم، وحيث عم الرخاء وانجابت الغمة، وأشرقت
لحظة التنوير الروائي، و(خيم المسك فوق القلوب الرقيقة)[ix] وعلي مسرح السرد كانت هناك
سرعة في تدفق الأحداث ، انتقام "فارس" باستعمال زر واحد لتفجير القنابل
الفراغية لدي الأثرياء، ولكن هذه السرعة كانت في إطار التكثيف مبررة، وأري أن الفكرة التي تؤرق الكاتب ولم يشأ أن
يترك روايته دون إستيفائها هي فكرة تصفية العلماء العرب، ومن أجل ذلك وفي عجالة
كرر أحداث روايته بإيجاز سريع.
إن
الكاتب في نصه يهدف إلي إذكاء بصيص الوميض وإشعال شعلة الأمل رغم المحن، حتي ترتوي
القلوب بماء السلام، يقول: (عاد إليهم العمر كالربيع المبتسم بالثمار، اخضرت
الأماني يكسوها السندس الأخضر)[x]، نرجو ذلك.
تعليقات
إرسال تعليق