دراسة نقدية عن روايتي أحلام الملائكة
بقلم: الناقد والفنان سد
جمعة
القارئ والمتابع للإصدارات الأدبية لـ د . / صلاح شعير ... يُدركُ أنهُ مُهتم اهتماما
بالغاً برصد التغيرات الاجتماعية والقيم والسلوكيات
الإنسانية في مصر من خلال نموذج " القرية " ، وهي النموذج الأمثل و المستوطنّ
الرئيسي للقيم الدينية و بالدرجة الأُولي مع
القيم والسلوكيات الفطرية الشفيفة ، ذلك لأن القرية هي الطرف الأقرب تلامساً للمدينة ، كما أنها الرافد الدافق لهذه القيم الأصيلة
لسكان المدينة والمَرجع و المُرجح بصورة ما للإصلاح والتقويم و الاحتفاظ
بصورتها التقليدية - مع العمل بها - كوسيلة ناجعة لهوية نقية و خاصة بين الدول
، إن رصد هذا التغير و التأثيرات المُتبادلة بِحداتِها وسرعتها ، ومدي تغلغُلِها في نسيج الإنسان وبالتالي
البيئة المحلية ثم المجتمع و الهوية المصرية ذاتِها يؤكد صواب هذا التوجه الذي يهتم
به كاتبنا.
إن هذه المتابعة و الرصد العلمي في إطار أدبي
وفني يعيد للذاكرة أدبيات الرواية المُؤرِخَة لِحقبةِ من الزمن كما رأينا في أدبيات
وروايات أديب نوبل مصر و العرب : نجيب محفوظ في الثلاثية وغيرها أو علي وجه الدقة للقرية
والريف المصري منبع القيم والحضارات والسجل الدائم للتطور الديموغرافي للبيئة والسكان
؛ لقد فعل ذلك أسماء عديدة من الكتاب المصريين مثل محمد حسين هيكل ؛ يوسف ادريس؛ عبد
الرحمن الشرقاوي ؛ محمد عبد الحليم عبد الله ؛ توفيق الحكيم وغيرهِم كُثر.
ولقد كانت للكاتب رؤيته المستقبلية في تغير سماتِ
القرية المصرية من خلال رصده للزحف الطاغي لسلوكيات وأخلاق سكان المدينة ؛ فبدلا من
أن تستقبل المدينة وتكتسى ببعض سماتِ المدينة ولو تجملا، صارت القرية فريسة سعلة أمام
الزحف الطاغي لسلبيات سلوكيات المدينة ، ولم تعد القرية كما كانت واحة الراحة والخضرة
والماء والوجه والسلوك والأخلاق الحسنة ؛ ومصدراً
حقيقياً لهم ؛ لقد تغيرت القرية عن زمن من كتبوا عنها ذكتُ أسماؤهم حتي أصبحت القرية
كمريض الجزام تتساقط من وجهه وجسده قطعٍ من اللحم وظهرت البثور و الحفر العميقة مِن
جراء التساقط السريع للسماتِ الجمال ، و الطهر، وحلت الدمامل و التقيحات و القبح و
الضعفِ والبؤسِ مكان آياتِ الجمال ، لقد رصد الكاتب بنجاحٍ بالغ ذلك في محاولتهِ لفت الأنظار لِما يحدث و تدارك ذلك ، فكانت شخصياته
من أهل القرية أو الوافدين إليها ومِن خلال
صراعات رهيبة فيها الكثير من السلبيات الخلقية وهي تتشاحن مع بعضِها بقسوةٍ
وعنفٍ بلغ حد الإزاحة و الطرد و الفتن و القمع و السطوة البدنية و الإرهاب و وصولاً للدماء و القتلِ المباشر ؛ كان الكاتب بارعاً
في تصوير ورصد كل ذلك و بصورة درامية تحملُ الفكر كما تحمل صدق الرصد.
إن هذا يؤكد أن الرواية ستبقى دوما الأميز أدبيا
كوثيقة شاهدة عن تطور و تغير الإنسان بل و والبيئة الدائم في كل بلدٍ .
* ولا اغفل أن أُشير بما هو معلومٍ عن كاتبنا
الراقي أنه يحمل دكتوراه في الاقتصاد وله كتب
ذات أهمية وقيمة بالغة وربما غير مسبوقة في خصوصيتها و اهتمامها بالأثر الاقتصادي و
البعد الاجتماعي لعدد من المشاريع القومية الحديثة في مصر.
و ...
نبدا معاً رحلة نلتقط الأبرز في هذه العمل الأدبي الذى نحنُ بصدده " أحلام
الملائكة "
.
نعلمُ أنّ " الملائكة؛ هُمّ حلمٌ لكثيرٍ
مِن البشر؛ فما تكونُ أحلامُها!
* عنوان الرواية كان اختيار و إبداعُ ذكى؛ لا يجبُ أن نغفلهُ و نحن نمضى
إلي ما بعدهِ ؛ و يُهيئ القارئ للبحث عن الملائكة
في الرواية، وأيضا يُتيحُ له إعداد و تصور لِما تكون عليه أحلام هذه الملائكة.
* كما أن الغُلاف ذاته يمثل بألوانه شبه الداكنة، ومكوناته الرئيسة أيقونات القرية المصرية المرأة الريفية المصرية ، والترعة ، وجرة
الماء ربما لم تعد تمثل فقط وعاءاً للماء؛ بل هي أشبه بوعاءٍ يحملُ ا لذكريات لكل بما
فيها من الآمال و المعاناة ، مع خلفية لحظاتٍ من بزوغ " الفجر" و إشراقة بشائر
أضواء يومٍ جديد لأمال وأعمال روتينية تتدثر بوهج طاقات متجددة راغبة في اختلاف جديد
عن يوم سابق سنلاحظه في ثنايا صفحات الرواية.
* ويأتي
الإهداء البسيط و العام " إلى كل عشاق الأمل " ، كبطاقة دعوة رقيقة يصطبها
ويبرزها القارئ كوثيقة عبور حين تدلهمُ الأحداث ليمضي بشغفٍ إلى نهاية القصة.
* لقد كان لتعبير ناقدنا الراحل محمود امين العالم
" البناء المعماري " حين تعرض في قراءاتِه لأدب نجيب محفوظ ، سنجد أديبنا
د . / صلاح شعير .. يهتم بتقنية إعداد الهيكل المعماري لأحداث و شخصيات رواياته ، فهو
بوسيلة ما وتقنية احترافية رائعة ، يجيد رسم الشخصية بدءاً من الأسم و الملامح والسمات
الخُلقية والسلوكياتٍ وأسلوب الحوار ... الخ ؛ ليتسقُ ذلك مع الإطار الذى تتحرك فيه الشخصية على امتداد الرواية لِينزعُ الكاتب نفسه من الوجود
أو التأثير أو التدخل المباشر في لغة السرد – ونأمل ان يتدارك و يقلل حجم تدخله الواضح
من خلال إضافة تقارير مُباشرة قد يكون مضطراً لإضافتها بحكم أسلوب صياغته المألوفة في كتاباتهِ العلمية.
* ولقد كان أديبنا حريصاً أن يكون البناء الهيكلي
مُكتملاً فنيأ حيث أن الرواية تقع في 176 صفحة من القطع المتوسط ؛ و تتكون من 20 فصلا
معنوناً بأسماءِ تُدلل على ما في الفصل و أحداثهِ ؛ بداية من الفصل الأول المعنون
" جميزة العم حافظ " التي يُشير من خلال " الجميزة " التي تعني
الرسوخ و الجذور و الإثمار الدائم للقيم و السلوكيات المتأصلة في القرية، وباقي العناوين
تشيرُ لأحداث كل فصل ( البؤساء ؛ الغيرة القاتلة
، السرايا ، المصيف و الشقاء ؛ السقوط ؛ أحلام الملائكة ؛ الجريمة ؛ الوداع الأخير؛
شؤم المعصية و الآلام؛ الهروب؛ الأمل؛ الغزو؛ المفاجأة ؛ العودة ، المواجهة ؛ الفجر
، الغدر والحلم ).
* وأعد
مع دقة رسم الشخصيات ؛ تنوعِها و اختلاف ثقافتِها
و بنيتِها الذاتية والنفسية المرتبطة بثقافات تخلطُ أحيانا بين العلم و الجهل والآمال
والطموحات المُتعددة البسيط منها و المُعقد وإيجاد آليات ومبررات لكل شخصية في أدوارها
المُتباينة في أحداث و تطور الرواية وتأثير ذلك المباشر وغير المباشر حتى حين ينتهي
دور كل شخصية ؛ لتأجيج الصراع وتفعيل الاحتداد الدرامي الأساسي للرواية أو ما يمكن
تسميتهُ بعنصر الإثارة و التشويق للقارئ .
* يتمتع أديبنا بقدرته السردية الفائقة التميز
في اللغة و أسلوب سردٍ بسيط دون إسهابٍ يُسطحُ أو اختزال مُخل ، مِن خلال كلمات حوارٍ
متسقُ تماماً مع الشخصية نفسِها و ثقافتِها تأكيداً لصحة رسم الشخصية و سلوكياتِها
التي وضع بذورها في بناءهِ لِلمعمار الهيكلي للرواية .
* ولعل الرائع في بناء هيكل الرواية مع تعدد الشخصيات
( مدرس ؛ موظف ، ريفي أو ريفية ، عامل أو عاملة ؛ طالب ؛ دارس علم ؛ طبيب ؛ مثقفٍ بدرجاتٍ
متفاوتة ... الخ ..... إن هذه النماذج و من خِلالِها يرصد الكاتب التحولات و التغيرات
في القيم و السلوكيات الإنسانية والشخصية لكل من في القرية؛ وقد جاء هذا الرصدُ بوسيلةٍ
أدبية وعلمية - في آن واحد – لِمن يعنيه الأمر في المراكز و الهيئات العلمية المُختصة.
* ربما لأنه لم تتوفر لي سوي نسخة PDF؛ لم أتمكن من عرض نماذج تُدلل على
ما ذكرته من تقنيات أو فقرة من فقرات و صفحات الأحداث.
* الرواية و إن كانت تدور حول شخصية رئيسة ومحورية
؛ إلا أن الكاتب و من خلال بناءِه المعماري لها ؛
جعل كل الشخصيات أبطالا ؛ وجعل البيئة و المكان والزمان أيضا أبطالا حقيقين
. بل جعل " الحُلم " حُلماً للبشر والملائكة ، حين ينهي روايته بفقرة طويلة
اقتطع منها عمقاً واضحا للرواية في هذه الفقرة:
( عندما تطهرت النوايا ؛ إنبلج من الأعماق وجه
الملائكة تحوم فوق السنين ، ليزيح مع البشر جبال الجهل من فوق العلوم ، فقبض الجميع
علي خيوط الفجر يجذبون الشروق من جوف السماء حتي يأتي الصبح الجديد )
تعليقات
إرسال تعليق