القائمة الرئيسية

الصفحات

كتاب "من حكايات العمر" سيرة ذاتية تتحرك بين السياسة والأدب، والفن.






خالد حمزة:  طرح مشكلة الثأر بالصعيد، وكيف قام جده بأكل كبد قاتل ابنه فوق سجادة الصلاة، مقابل  الصفات الجيدة ومنها نجدة الملهوف، والكرامة.


 تجربة فنان انتصر علي جلاديه من خلال  كتابه "من حكايات العمر"  إنه المناضل الفنان الأديب خالد حمزة، مواليد  القاهرة 1934م، تنقل في طفولته  بين القاهرة الصعيد،  واستقر به المقام  في مدينة 6 أكتوبر منذ عام 1992م،  وبعد  ثورة يناير 2011م، أصدرت الهيئة العامة للكتاب رائعته  "من حكاية العمر" عام 2013م، وهو كتاب يقص السيرة الذاتية للكاتب في الفترة الزمنية من 1950 حتى،  1965م،  ورصد الكتاب  تاريخ الفنان في العمل السياسي،  وكيف أثر هذا النشاط على إنتاجه الفني كمؤلف مسرحي وسينمائي،  فقد كان انضمامه للحزب الشيوعي سببًا في  صدور  أول أمر اعتقال له عقب حريق القاهرة في 26/1/1952 م، ولكنه تمكن من الهرب إلى الصعيد حتى قامت ثورة يوليو، تم اعتقاله في عهد الرئيس جمال عبد الناصر في يوليو 1959م، حتى أول مايو 1964 بسبب انتمائه للحزب الشيوعي،  أيضًا في فترة حكم الرئيس أنور السادات عام 1978مـ،   بسبب معارضته لاتفاقية "كامب ديفيد" وقد دافع عنه عددا من المتطوعين على رأسهم نقيب المحامين أحمد الخواجة  والمحامي نبيل الهلالي وأفرجت المحكمة عنه بعد المرافعة بدون أي ضمان.


مدرسة الكبرياء:


خالد حمزة الإنسان والفنان

ورد في الكتاب أن جد "خالد حمزة"  لأبيه كان رجلا محافظاً يخاف من الحرام،  وعلم "حمزة"  الأب حتى أصبح أستاذا له صيت، ويطرح المؤلف في سيرته الذاتية دور جدته لأمه "خديجة"  تلك المرأة الصعيدية الصلبة،  والحكيمة،  والتي كان له أثراً  كبيرًا في صياغة شخصيته، وقد ظهرت صلابة الجدة في حكاوي القرية  جلياً عندما مات زوجها "على" وأراد أخوته الاستحواذ على أرضه، فحملت السلاح لحماية الميراث،  ولم تشأ أن تقحم أخوتها في الصراع حتى لا تسيل بحورًا من  الدم؛ وقد نجحت في ذلك، وقد تسببت نصائحها  "لخالد حمزة" بعدم قبوله في المدرسة الحربية عندما طبق نصيحتها عندا قالت له: " لو حد بص في عنيك أياك ترخيها، اللي بيحلق لك بحلقله " وكان من شروط  القبول  بكلية الضباط عدم النظر في وجه وزير الحربية حيدر باشا وقد أوصاه أباه والعالميين ببواطن الأمور بذلك، ولكنه فجأة لم ينسي نصيحة الجدة ولم يخفض عنينه في وجه وزير الحربية ولذا تم رفضه وحرمانه من الالتحاق بالحربية.

صورة أرشفية لصالون خالد حمزة


المراوغة السياسية:


نشأ الكاتب  في مجتمع صعيدي تميز بالغلظة، والقسوة،  والعناد،  والكرم،  والرجولة،  وكان ذلك  عاملا مؤثر بدرجة كبيرة على شخصيته، فبعد وفاة أمه "زمزم" وهو طفل رضيع لم يكمل عامين قذف به القدر  ليترعرع في أحضان جدته "خديجة" أبنه العمدة الحاج "طه" أحد أعيان الصعيد المتجبرين، فهو رجل يتمتع بالشدة، والحكمة، والقسوة، والقدرة على المناورة،  والشهامة، وتكونت شخصية الكاتب علي حكايات الجدة ، وكانت أحدى تلك الحكاوي عن حفل عرس ابن خشبة باشا أحد أعيان الصعيد،  وكان قد انفق على هذا العرس مالا كثيرا جعله يشعر ببعض الحصرة، ولكن الحج "طه"  ذلك  العمدة المرواغ  همس في أذن الباشا قائلا : "ما تخفش يا باشا ربنا ح يعوض عليك"  وفي نبرة استدراج وتحدي قام الحج طه بافتتاح النقطة بجنيه ذهب وما كان من العمد إلا أن قاموا بتقليده،  فهم في الصعيد يتفاخرون بالنقطة،  وهم ليس أقل منه وكرر ذلك بصورة تشبه العرض المسرحي  ثلاث مرات،  وفي أخر العرس توجه الحج طه إلى خشبه باشا واستيراد جنيهاته الثلاثة ليمارس عمليا بعض ما تعلمه في إدارة القرية كعمدة، وقد استفاد خالدة حمزة من تلك القصة عمليًا، فعند اقتحام البوليس السياسي  المنزل للقبض عليه انتحل شخصية جمال أخيه،  واستطاع خداع البوليس السياسي ليتمكن من الهرب.

القسوة والثبات:

ولم تكن المناورة هي أهم ما يميز الحج "طه" جد كاتبنا؛ فقد كان يمتلك من العناد والقسوة ما يؤهله ليكون عمدة عن جدارة، كان الله قد رزقه من الذرية 13 ولد وبنت، وكان ولده "صبره"  رمزاً للبطش والقوة في القرية، وتكالب عليه بعض المنافسين بالقرية لقتله، وهداهم تفكيرهم لجمع أربع شباب من العائلات القوية حتى لا يستطيع أحد أن يأخذ بثأره، وفي ليلة قتله لم يذهب الحج "طه" وأولاده لتشييع الجنازة وأمر بتجهيز العشاء ووزع اللحم على 12 فرد من أولاده وبقى نصيب صبره أمام الجميع ثم طرح سؤالا على أولاده
-: من يأكل نصيب صبره ؟ 

 أجاب عبد الفتاح بحماس: "أنا وآخذه وآكله وكان ذلك كناية علي التعهد بأخذ الثأر"  وتكرر ذلك الفعل  لمدة 39 يوميا، وفي اليوم الأربعين بعد الانتهاء من العشاء طلب الأب من عبد الفتاح الذهاب لأخذ ثأر أخيه وأن يقتص فقط من آخر فرد ضرب "صبره" قبل موته،  وبذلك أفسد خطط الإيقاع به في فخ الصراع مع القرية بأكملها،  عاد عبد الفتاح بكبد القاتل ووضعه أمام الأب "طه" الذي أكله بالملح والثوم علي سجادة الصلاة، وقد أسهم هذا الميراث في صمود "خالد حمزة"  إمام الاعتقالات السياسية دون التراجع عن موقفه.

الشهامة والتعايش:

وكما يروي الكتاب عن الجد الحج "طه"  فلم يكن مراوغ وقاسياً فقط  بل كان شهماً؛ وبرزت تلك الشهامة عندما استنجدت به امرأة كان زوجها يعمل لدى صديقه "خشبة باشا"؛  وتم اتهامه زوراً بسرقة مصنوعات ذهبية من قصر الباشا، حاولت الشرطة أخذ زوجته كرهينة ، وضربها وحجزها؛ حتى  يتم تضغط على الزوج المتهم كي  يسلم نفسه للشرطة، وعندما تقدمت قوة للقبض على المرأة تصدى الجد "طه"  للمأمور وشهر بندقيته في وجهه لإنقاذ تلك المرأة التي استجارت به مضحيا  بعلاقته بخشبه باشا صديقه، ومعرضا سلطته وحياته كعمدة للحظر من جراء التصادم مع الحكومة، وكادت أن تقوم مذبحة لولا حكمة المأمور، وتفهمه لعادات الصعيد،   وتبين بعد ذلك براءة زوج  المرأة المستجيرة  من تهمة السرقة، وقد ظهرت تلك الشهامة في  "خالد حمزة " عندما  مد يد العون للأصدقاء  دون انتظار أي مقابل.


الوحدة الوطنية:

لمس الكتاب في مشواره الطويل قضية الوحدة الوطنية من خلال العم "صليب" وعلاقته بالجدة "خديجة" فقد كان التعيش رمزا لتك المرحلة ، فعندما ارتكبت "مريم" ابنة العم "صليب" فاحشة الزنا في بيت الجدة؛ حكمت عليها بالقتل، وعلي  ابن أخيها "فتحي" بالطرد، ومصادرة أملاكه جراء إقامة علاقة غير شرعية مع الخادمة "مريم"، ولكن هذا العقاب كما ورد بالكتاب لم يكن عادلا من وجهة نظر المؤلف، ولكنه تفهم أن قتل مريم كامرأة لم يكن لكونها مسيحية بل كان هذا الجزاء هو عقاب كل امرأة تقوم بارتكاب الفاحشة في عالم الصعيد بأكمله.

السجن والألم:

لقد أصبح خالد حمزة في مرمى البوليس السياسي، واستطاع الهرب من الملاحقات الأمنية ليعيش في الريف المصري،  ويتطلع على سوء الحالة الاقتصادية،  والاجتماعية، والصحية للفلاح المصري قبل يوليو 1952م، ولذا كان من المؤيدين للنظام الجمهوري،   وقد أدى هذا الوضع المتأزم إلى عدم زواجه من أول امرأة خفق قلبه نحوها، وعندما دخل سجن الواحات  كان هناك تعمد لاهانة المعتقلين، وعن سوء قصد سلمه صول المهمات بنطلوناوجاكت واسعين، وعندما يلطمه السجان على قفاه  وهو يدخل إلى زنزانته، سقط البنطلون على الأرض في صورة هزلية،   فما كان منه إلا أن أطبق على رقبة  المعتدي  حتى كاد  يقتله لولا اعتذار الجاني،  لقد كان هذا الموقف مزيجًا  بين الكوميديا السوداء،  والقهر مما جعل أحد الضباط على الجانب الأخر يضحك بهستيريا  جراء هذا المشهد الدرامي المؤلم.

خالد حمزة ومحمد إسماعيل في قصر ثقافة الحي السابع بأكتوبر

وفي السجن علم خالد بموت الدكتور فريد حداد فحزن عليه، فقد كانت له قصة لا ينساها معه فحين  كان عائدا من الجيش أثناء فترة التجنيد، عندما وجد أبنه ساخناً مريضا،  ولا يوجد معه مال للكشف عليه، حتى دلتهم الجارة على طبيب يعالج بدون مال،  وكان هذا الطبيب هو فريد حداد،  وعندما صعد العمارة للكشف وجد شقتين متقابلتين كلاهما تحمل لافته باسم الدكتور وقاله له التمرجي:
-:  "معاك ريال خشن هنا ما معكش خشن هنا"

 وانطلق لعيادة الكشف المجاني،  وبعد أن أتم الكشف فهم الطبيب بخبرته أن خالد  لا يوجد معه نقود؛ فقام هو بإرسال التمرجي لشراء  العلاج من الصيدلية علي نفقته، من المفارقة أن هذا الطبيب كان زميل له في معتقل الواحات ثم نقل إلي سجن أبو زعبل وفارق الحياة.

تلك بعض الومضات الوجيزة جدا من الكتاب العبقري الذي رصد جزءاً هاماً من واقع الحياة السياسية والاجتماعية بمصر.






تعليقات

التنقل السريع