يعاني الأدباء الذين يكتبون الأدب النظيف طبقًا لأيدلوجيات دينية من التهميش
والإقصاء، حيث يقصفهم اللادينيون بِتُهَمِ التحريض على الحاكم، ويلفظهم المتطرفون الذين
لا يعترفون بالأدب أو الفن ويعتبرونه بدعة، ومن ثم يقع تيار الاعتدال في الأدب بين
مطرقة الملحدين، وسندان الإرهابيين.
ومثال على ذلك، فقد تعرَّض الكاتب أحمد على باكثير عندما قدَّم رواية “وا إسلاماه”
عام 1945م إلى محاولات كثيرة للهدم، ومازالت هذه المحاولات مستمرة حتى اليوم، ويرجع
ذلك لكونه ينتصر للقيم الإسلامية في المضمون،
وكان أبرز هذه القيم الحب النبيل، وهذا لا يروق لدُعاة الإباحية، وقدَّم قيم الدفاع
عن الوطن، أما القيمة الكبرى في النص فكانت ضروة التمسك بالإسلام كدين، ونجح المؤلِّف
في إقناع القارئ بأن يهتف لسان حاله بعد قراءة الرواية ليقول: “وا إسلاماه”.
ولم يسلم الفن من هذا التربّص، فقد تعرَّض
فيلم “شئ من الخوف” الذي أُنتج عام 1969م، لنفس القصف، ويرجع ذلك لأمرين؛ الأول:
أن الفيلم كان دعوة للتصدّي للظلم، وقد ربط البعض زورًا وعدوانا بين شخصية البلطجي
قاطع الطريق “عتريس”، وشخصية الحاكم.
والثاني: أن التصدي للظلم تم عن طريق الشيخ إبراهيم، وشخصية الشيخ المخلص تُزعج
دُعاة الفكر الشاذ، ولذا لم يجد اللادينيون وسيلة لإيقاف الفيلم سوى الادّعاء بأنه
يستهدف الرئيس شخصيا، ولكن ثقافة ونُضج جمال عبدالناصر وقتها أفشل تلك الحِجَج الواهية
وأمر بعرض الفيلم.
نجيب محفوظ والأدب السياسي
لم يسلم نجيب محفوظ نفسه، ككاتب ليبرالي
من المُضايقات، فبعد أن نشر روايته «ثرثرة فوق النيل» في سبتمبر 1965، غضب منه المشير
عبدالحكيم عامر، وأصدقاؤه- شِلَّة فيلا الهرم- وتم الشروع في اعتقاله، وعندما علم الرئيس
جمال عبدالناصر بالأمر قال: “إن الرواية فيها نقد، وإن النقد الذي تنطوي عليه صحيح،
وإن علينا أن نعترف بوجود السلبيات التي تشير إليها ونعمل على الخلاص منها، بدلًا من
أن نضع رأسنا في الرمال وننكر حقيقة ما تُنبِّهنا إليه الرواية وكأنه غير موجود،
ونحن نعترف بيننا وبين أنفسنا بذلك”.
مشكلة الأدب أنه يتناول أفكارا تتكرر في الحياة بصفة مستمرة، وقد يطرح الكاتب
بعض المواقف التي تتشابه مع الواقع الفعلي لمعظم البشر، وعندما يقوم الناقد بإسقاط
هذا التشابه على شخص بعينه، تحدث المشكلة، أو عندما يقع النص في يد القارئ الذي تتشابه
بعض الأحداث مع ما مرَّ من مواقف، ومن هنا يعتقد أن المؤلِّف يُشَهِّر به، في حين أن
العمل كله من وحي الخيال، وأن معظم تصرّفات البشر منذ بدء الخليقة حتى نهاية الدنيا
متشابهة، وتكاد تكون نُسَخًا كربونية من بعضها البعض.
الأزهر والإبداع
لا يمكن أن ننكر دور الأزهر الشريف على مرِّ العصور في دعمه لفكرة الاستقلال
الوطني، والحفاظ على الهُوية، ولكن البعض يطالب بضرورة أن يتفهَّم الأزهريون لطبيعة
الأدب والفن، لأن الإبداع الهادف لا يتعارض مع رسالة الأزهر في بناء العقول.
وقد كان موقف الأزهر أحيانا لا يُلَبِّي متطلبات الفن الهادف، ربما يكون ذلك
بسبب سوء الفهم، ومن تلك المواقف التي اصطدم فيها الأزهر بالفن رفضه لمسرحية “ثأر الله” 1970م، وذلك عندما قام المخرج الراحل
كرم مطاوع بالشروع في تقديمها للمسرح بعد أن
دمج مسرحتي عبدالرحمن الشرقاوي “الحسين شهيدا” و”الحسين ثائرًا” في نص واحد، وقد تأسَّس
رفض الأزهر على عدم القبول بفكرة تجسيد الحسين على المسرح، وعندما قدَّم المخرج الحل
الذي تبلور في أن يقدِّم الرواي دور الحسين،
مسبوقا بكلمة: يقول الحسين، رفض الأزهر الحل المقتَرَح.
تكرَّر الرفض عام 1987م، حيث ذكر مجمع
البحوث الإسلامية، عِدَّة اعتراضات منها أن هذه المسرحية من الممكن أن تُحدِث فتنة
بين الشيعة والسُنَّة.
ويمكن تفنيد رد الأزهر عن الفتنة؛ فهي
غير واردة؛ لأن السُنَّة والشيعة يتّفقون على حب الحسين، والإمام علي.
أما القول بأن المسرحية تمثِّل تحريضا للشعب ضد الحكم الشرعى للبلاد، فهذا جعل
بعض علماء الأزهر يضعون أنفسهم محلَّ الرقيب السياسي بلا مبرر.
النُضج السياسي
وسوف نضرب عدة أمثلة لإثبات أن بعض المسئولين عن الثقافة أحيانا يكونوا مَلَكِّيون
أكثر من المَلِك!
أثبت مسلسل “ألف ليلة وليلة” والذي
بدأ عرضه بالتليفزيون المصري في شهر رمضان عام 1995م، أن البُعد السياسي في
الأدب والفن قد لا يُغضِب المُختصِّين، لأن هذا المسلسل بالتحديد مليئ بالأحداث السياسة،
والجنسية، والرومانسية، ولم يتم الاعتراض عليه من قِبَل أحد.
وأيضًا قدَّم عادل أمام مسرحية “الزعيم” السياسية، عام 1994م، حيث تدور أحداث هذا
النص حول الحاكم الديكتاتور، وكيف يقوم بتبديد
موارد شعبه، وقمع الحريات بالحديد والنار، وهذان العملان يُدحضان رفض الأزهر لمسرحية “ثأر الله” لاعتبارات
سياسية.
رواية 1984
برزت مشكلة تلك الرواية عندما تمَّ القبض على شاب مصري من تيار المعارضة، وتصادف
وجود رواية 1984م معه، وبعدها تم الترويج لفكرة أن السُلطات المصرية تعتقل الأشخاص
الذين يقرأون رواية جورج أورويل، والتي صدرت في بريطانيا عام 1949م، والتي يتنبأ فيها
المؤلِّف بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تدعم الحكم الشمولي، وقد جاء الرد الرسمي
بأن قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر بطبع الرواية عام 2015م.
هذا يؤكد أن الجهات المُختصَّة تستطيع أن تميِّز بين الإبداع، والتحريض، وأن
الرؤية الفنية داخل النص هي خيال قد يكون مفيدا وكاشافًا، ومساعدا في رصد الأخطاء.
حماية حرية الإبداع
تكمن المشكلة أحيانًا في بعض من يقومون بإجازة الأدب المكتوب في مجالات النشر،
أو في المسابقات، لأنهم يحكمون على النص بعيدًا عن المعايير الفنية، انطلاقًا من وجهة
نظر أيدلوجية، أو بتأويلات تتجاوز حدود النص؛ في حين أن القيم الإيجابية، أو السلبية
داخل العمل هي قيم عامَّة مُجرَّدة، كالقواعد القانونية، ولا تستهدف شخصًا بعينه، بيد
أن الأخطاء التي تُرتكب باسم تحليل المضمون هى “لَيّ عُنُق” المفردات داخل النصوص بتفسيرات
من وحي الخيال.
يحلو للبعض في الوقت الراهن أن يحرِّضوا على الإبداع ذى الجذور الإسلامية المعتدلة،
عبر الزَجِّ بتقارير سياسية تصنِّف الآخر طِبقًا للأهواء، وهذا السلوك يجب أن يتوقف،
لأن كل محاولات طمس الإبداع مآلها إلى الفشل؛ كما أن الضمير الإنساني قد اعتاد دائمًا
أن يُعلى من شأن التميّز لصالح حرية الإبداع.
تعليقات
إرسال تعليق