دراسات
تاريخ التخابر كنشاط قديم بدأ منذ نشأة البشرية، وظهر في مصر منذ عهد الدولة الفرعونية، وكان التخابر في الإسلام عملية مشروعة لحماية الدولة الوطنية من الأعداء وفي العصر الحديث تمارسه كل الدول لحماية أمنها القومي.
وتعد المخابرات ومجالاتها
أحد أهم الروفد التي تغذي الفن بموضوعات
تغلفها النزعة الوطنية، لشخذ الهمم خلف القيادة؛ بهدف بناء الوعي، وهذه النوعية من الأعمال الدرامية تتطلب مهارة
في الكتابة والإخراج والأداء والتمثيل في ظل وجود إدارة محترفة تعي دور الفن في تعزيز
آواصر الترابط بين أبناء الوطن الواحد؛ إلا المشكلة أن الدراما المصرية هجرت هذه النوعية بسبب الإنحدار في مستوي الفن المصري وضحالة الفكر لدي الكثير من
القائمين عليه في الحقبة الأخيرة قبل ثورة يناير 2011م .
أما الدراما العربية بصفة عامة لم تنتبه لقيمة هذه النوعية
من الفن في توعية الجماهير العربية بمشاكل الأمة، ولم تتعامل مؤسسات الإنتاج الفني
مع الدراما المخابراتية بشكل يتناسب مع أهميتها في تحقيق التلاحم الشعبي حول فكرة الوطن،
أو بما يسهم في رفع معدلات الوعي السياسي بالدول العربية ككل.
الولاء والفن الإصيل
ثمة علاقة بين الفن الأصيل وتعزيز فكرة الإنتماء نحو الوطن، لأن الدراما
المتميزة هي التي تنقل صورة مجسمة للاشتباكات الشاقة التي تخوضها أجهزة الأمن القومي
بالخارج إلي المتلقي، وبشكل مبسط يبرز ما يبذل
من الجهود من أجل دعم الاستقرار بالداخل . فالجماهير دائما تواقة لمعرفة قصص الأبطال الذين يعملون
فوق الأراضي المعادية في ظل ظروف صعبة،
ويعد عالم المغامرة في كواليس المخابرات من أفضل المواد الدرامية التي تستهوي
المشاهد عندما يتابع جنودًا يخترقون الجواجز والصعوبات عبر الحدود؛ بهدف حماية البلاد
من هجمات عسكرية أو إرهابية محتملة، وبقدر
ما تقدمه تلك الأنماط من متعة وإثارة، إلا أنها تسهم في غرس ثقافة الولاء للوطن.
صعوبة الإفراج عن الوثائق
وتكمن معضلة دراما المخابرات في أن عملية الإفراج عن بعض الوثائق تكون شحيحة
وتخضع لإعتبارات أمنية، إلا أن العبرة
في تناول الموضوعات المفرج عنها تكمن في جودة البناء الدرامي عندما يتم تناول مثل هذه الموضوعات. وقد يبدو للبعض عند تجسيد بعض أعمال التخابر دراميًا أن هناك تباين بين الواقع
والحقيقة، وإنما يحدث ذلك إما لحجب بعض الحقائق من أجل الأمن القومي؛ أو نتجية خيال
المؤلف المشروع في صياغة الأحداث والتفاصيل في حدود المضمون؛ حتي ينقل الصورة للمشاهد العادي بأسلوب سهل ومشوق، وفي جميع الحالات سوف
نجد أن هذه الدراما تثري المخزون التراكمي
للوطنية داخل قلوب الجماهير، وهو ما يتطلب
ضرورة العودة لإنتاج مثل هذه النوعية وخاصة أن أرشيف المخابرات المصرية يعج بالكثير
من الوثائق التي يمكن الإفراج عنها.
السينما المصرية والجاسوسية
ومنذ وقت مبكر تعرضت السينما المصرية للجاسوسية بشكل جيد؛ وكانت بمثابة الناشر الفني لثقافة الانتماء
عبر الشاشات الفضية، وقد استطاعت السينما من بناء حائط صد ضد توغل الكيان الصهيوني والحد من قدرته علي تجنيد
العملاء أبان تلك الفترة، جرّاء تمجيد البطولة وتحقير الخيانة؛ فغرست في نفوس
الإجيال بعضًا من بذور الوطنية الجارفة جنبًا إلي جنب مع البرامج التربوية،
والثقافية، ومن أهم الأفلام التي ظهرت : فيلم
"جريمة في الحي الغربي" الذي
أنتج عام 1967 تأليف اللواء عبد المنصف محمود،
وأخراج حسام مصطفي، وسيناريو وحوار حسن رمزي،
وفي عام 1978 أنتج فيلم "الصمود للهاوية" من تأليف صالح مرسي وماهر عبد الحميد، وإخراج كمال الشيخ وبطولة مديحه
كامل وجميل راتب، ثم فيلم الطريق إلي إيلات عام1993، وبصفة عام يمكن القول أن السينما
كانت علي درجة من الحرفية في معظم أفلام الجاسوسية باستثناء فيلم أولاد العم عام
2009، الذي أمتلئ بنقاط ضعف كثيرة.
التلفزيون المصري ودراما المخابرات
تألق
التلفزيون المصري في بعض الفترات عندما
أدرج علي خريطة الإنتاج الفني مثل هذه الأعمال، ويعد صالح مرسي من أشهر الأدباء في
مجال أدب المخابرات، وبرز ذلك في ملسلسل
"دموع في عيون وقحة" عام 1980 وجسد
الفنان عادل أمام شخصية البطل الحقيقي أحمد الهوان تحت أسم جمعة الشوان بينما جسد الفنان
صلاح قابيل شخصية اللواء عبد السلام محجوب وأخرج المسلسل الراحل يحي العلمي وكانت الموسيقي
التصويرية لعمار الشريعي ، ومسلسل "رأفت الهجان" بأجزاءه الثلاثة في الفترة
ما بين 1987، 1990 ، 1991 و جسد الفنان محمود عبد العزيز وشخصية البطل الحقيقي رفعت
سليمان الهجان، وكانت الشوارع المصرية والعربية
تكاد أن تخلو من المارة أثناء عرض المسلسلين، ومن خلال الفن تعرف العرب علي عبقرية رجال المخابرات المصرية وقدرتهم الفذة علي العمل
داخل أراض معادية، كما أن التناول الدرامي كان علي درجة من القوة والجودة بما يتناسب
مع مستوي الحدث.
تراجع البناء الفني في الدراما
وفي ذات الوقت ظهرت بعض المسلسلات دون المستوي مثل "مسلسل الحفار" الذي أنتج عام 1995م، وعلي الرغم من أن العمل تعرض لقصة من أروع قصص التخابر في ذروة الصراع العربي
الإسرائيلي إلا أنه جاء ضعيف مستوي بسبب رداءة التكنيك الفني والإخراج، ومن هنا كانت
بداية التراجع.
وكانت العودة للتميز
مع إنتاج مسلسل "الطيور نحو المسرحة" عام 2002 من تأليف مختار عز الدين وإخراج هاني إسماعيل
بطولة فتحي عبد الوهاب لتتألق الدراما المصرية من جديد في شرح بعض الكواليس الغامضة في عالم التجسس، كذلك مسلسل العميل 1001 عام 2005 ، ومسلسل عابد كرمان عام 2011، علي الرغم من جودة القصص الواقعية إلا أن المسلسلات الأخيرة كان تتأرجح بين
الجودة والسطحية و ذلك نتيجة وجود خلل في الوسط
الفني حيث كان جزء كبير من عناصر اللعبة الفنية بعيداً عن التخصص الدقيق ويخضع لمفهوم
الشللية والمحسوبية وهو ما جعل الدراما غير قادرة علي عرض البطولات المشرفة لجهاز المخابرات المصرية بصورة مناسبة .
ويعد غياب تلك النوعية
من الدراما بالتزامن مع تراجع جودة الفن بمثابة
شهادة وفاة، قد حررت للفن المصري؛ وذلك عندما تحولت ميزانيات الدراما إلي مرتبات وأجور
لطاقات عاطلة، أو مكافات باهظة لمديرين من ورق، بعد أن أصبحت إدارة المرافق الفنية كأنها ساحة للمحسوبية؛ فصعد الأقزام
لقمة الهرم الإداري علي حساب اصحاب المواهب.
دور الصورة في صياغة الرأي العام
ومع أن العالم أصبح
يتخذ من الفن والصورة وسيلة للغزو الثقافي،
كرأس حربة في التمهيد لتفكيك الدول ذاتيا أو عسكريا عبر توظيف الدراما والإعلام
لذات الغرض؛ أُهدرت مئات الملايين علي مسلسلات وأفلام فنية غاية في الضحالة والسطحية ؛ فكانت بمثابة منتجات
شيطانية تهدم الثقافة الرفيعة، وتؤسس للفوضي،
وذلك عندما وظف البناء الدرامي لتمجيد البطل وهو يلج
بالمشاهد إلي عالم الإباحية وأوكار المخدرات ، وقد برر الفن كل تلك الجرائم
في سياق السرد الدرامي، ومن هنا ضربت فكرة تماسك
المجتمع، لصالح تراجع منظومة القيم
. ومازال الفن المصري محصور في أفكار درامية
عقيمة ، لتدور أزمة النص في كثير من الحالات
حول مشكلة عاشق يريد قضاء سهرة حمراء
مع معشوقته في ظل تدفق غير حميد لسيل من الألفاظ النابية.
ولم تكن النتائج السلبية لتدهور الفن المصري محلية فحسب، فعبر السموات المفتوحة طالت الكارثة الكثير من البلدان
العربية ، ووفقًا لنظرية المحاكة انتقلت سموم الفن الهابط إلي جوف الجماهير العربية
فماتت المشاعر النبيلة وأصبح الكثير من المواطنين مشوشين، كأنهم أُذْن تستقبل مايبث فيها من بول بلا تميز.
وعليه : بات علي الحكومات تعديل مسار الفن العربي، بما يسمح ببناء الإنسان عبر الدراما التي تحقق التوحد
نحو فكرة الوطن بعيدًا عن الخلافات السياسية
حتي تصبح شعوبنا غير قابلة للإختراق ، وذلك من خلال عودت الثقافة الإيجابية
جنبًا إلي جنب مع دراما المخابرات،
لصياغة الوجدان بمفردات بناءه، بهدف الصمود أمام التحديات التي تفرضها إفرازات
العولمة؛ وحتي لا تذوب الهوية في خضم التداخل الثقافي،
أو طبقًا لمخططات شريرة تستهدف تفتيت بلاد
العرب.
تعليقات
إرسال تعليق