دراسات
عرفت مصر منذ فجر التاريخ صناعة طحن الحبوب، إلا أن هذه الصناعة اليوم تمر بكبوة جراء العشوائية، في منح التراخيص بإنشاء مطاحن للقطاع الخاص، وإهمال تطوير القاعدة الإنتاجية الهائلة لتلك المطاحن المملوكة للدولة، وتزامن مع بداية الخصخصة أن بعض قرارات الدولة علي المستوي القومي كانت تسير في اتجاه التخلي عن الشركات الحكومية لصالح أشخاص بعينها، بعيدا عن التنمية الاقتصادية الحقيقية، وذلك عندما سمحت لسلة من أصحاب النفوذ وبعض البرلمانيين قبل ثورة يناير، بضخ استثمارات في مجالات الطحن بمئات الملايين، بالتزامن مع تجفيف المنابع التي ترفع الكفاءة الإنتاجية لممتلكات الشعب، ودون مراعاة أن الربحية المحققة من هذا النشاط تعود للدولة بالكامل بوصفها المالك الحقيقي لأصول الإنتاج، وتم تقويض ذلك الكيان تحت سيل من الشعارات الزائفة، ولولا تراكم الخبرات الإدارية بالشركات الحكومية لسقط هذا القطاع تماما منذ عقد من الزمان .
دخل القطاع الخاص حلبة المنافسة في البداية عبر إنتاج الدقيق
الفاخر، وعندما فشل فى الاستحواذ علي السوق،
تم سحب الأقماح المخصصة لإنتاج الخبز المدعم، من القطاع العام، ومنحها للقطاع الخاص،
تحت قصف رأسمالي يردد كلمات حق يراد بها باطل
مثل "حرية المنافسة" وغيرها
من شعارات.
وتحت ضغط رأس المال السياسي مُنح القطاع الخاص، من الربط
التمويني بالشركات الحكومية، كمية قدرها 8162 طنًا يوميًا، في 69 مطحنًا، ومازال يطلب
المزيد، لتعمل شركاته بكامل طاقتها القصوى، التي تبلغ 12907 أطنان في اليوم، وبعد سحب
تلك الكميات من مطاحن الدولة، وتقلصت عدد المطاحن الحكومية إلي 80 مطحنًا لطحن الدقيق
المدعم، لتنتج نحو 14401 طن يوميًا، من إجمالي
طاقتها الإنتاجية البالغة نحو 19962 طنًا في
اليوم .
بروز ظاهرة الطاقات العاطلة
والنتيجة هو تحول 28% من طاقة الإنتاج المملوكة للدولة داخل
القطاع العام و37%، من طاقات القطاع الخاص إلى طاقات عاطلة، حتى عام 2011 م، هذا بخلاف
أن الطاقة الإنتاجية لإنتاج الدقيق 72% ، فوفقاً لإحصائيات عام 2009 تبلغ نحو 13850 طن يوم، ونصيب القطاع العام منها
1450 طنًا يوميًا، ونصيب القطاع الخاص 12400 طنًا يوميًا بينما الاستهلاك لا يتعدى
سوى 8000 طنًا يوميًا للقطاعين مما يعني أن
هناك طاقة عاطلة بالقطاعين في هذا المجال تقدر 42,5% .
وأسفرت فوضي الاستثمار بأن تمكن أشخاص بالقطاع الخاص من امتلاك
طاقة إنتاجية تستطيع أن تستوعب 54% من إجمالي نشاط الطحن بمصر، وهو أمر جيد أن تم عبر
بوابة اقتصادية شفافة ومخططة، وبما لا يؤثر علي النشاط القائم، ويسعي البعض إلي التشغيل الكامل عبر الاستيلاء
علي الربط التمويني المخصص للقطاع العام، وهذا
التخبط الاستثماري حرم الاقتصاد المصري من الفرص الاستثمارية البديلة، واستخدام رأس
العاطل في مجالات صناعية أخري، منها علي سبيل المثال؛ توجيه رأس المال لإنتاج معدات
طحن الحبوب كصناعة إستراتجية، كان يمكن أن توفر للدولة مئات الملايين من الدولارات،
التي تتسرب سنويا للخارج لإقتناء وشراء تلك المعدات، فمتطلبات الواجب الوطني كانت تقتضي
حماية كافة الأموال بالقطاعين .
الاستثمار العشوائي يضر بالقطاعين
المنطق لا يرفض إجراءات الإصلاح الاقتصادي أو تشجيعه، فالأسس
العلمية كانت تقتضي عندما يشارك القطاع الخاص بهذه الصناعة بأن يتم منحه تراخيص بالكميات
التي تفوق الطاقة الإنتاجية القائمة بالقطاع العام، مع توجيه الفائض برأس المال الوطني لمجالات تخدم برامج التنمية، بيد أن جزء
من النافذين بالقطاع الخاص قد ضغط، من أجل تصفية قطاع الأعمال، تارة بوقف الاستثمارات
القومية داخل المطاحن الحكومية، علي اعتبار أن ارتفاع تكاليف الإنتاج، بالتزامن مع
الفساد الإداري سوف يؤديان إلي تقويضه ، وبيعه
بأقل من قيمتها السوقية تماما كما حدث لصناعة النسيج .
فأجمالي الكمية المطحونة بالقطاع الخاص 25307 أطنان في اليوم
من إنتاج الدقيق البلدي والفاخر، منها 35% تقريبا خصمت من الطاقة الإنتاجية المتاحة
بالقطاع العام، وبالتالي حرمت الدولة من عائد مؤكد، كان يمكن أن يستغل جزء منه في التطوير،
والباقي لتمويل الميزانية العامة.
خسارة الدولة أكبر من عائد الخصخصة
وللتدليل علي خطورة ما تم في صناعة الطحن نجد أن قرار سحب 8162
طن يوم من مطاحن الدولة في الدقيق
82% ، من الفترة 2005 حتى 2010 أدي إلي فقدان إيرادات
قدرها 2,2مليار جنيه تقريبا معظمها أرباح محققة كانت سوف تضخ في خزينة الدولة وهذا
الرقم، ربما يكون أكبر من صافي عائد برامج
الخصخصة ككل ، ويفوق أجمالي الأسهم التي طرحت
للاكتتاب العام، مما يعني ازدواجية الخسارة، فقد كان من الممكن قصر إنتاج الدقيق البلدي
علي القطاع العام فقط.
نموذج شركة مطاحن جنوب القاهرة والجيزة
نتيجة لسحب الأقماح المخصصة لطحن الدقيق البلدي من مطاحنها،
وإسنادها إلي بعض مطاحن القطاع الخاص، منذ عام 2005، بلغت الكمية المسحوبة من الشركة
حتى نهاية عام 2012 نحو 209 طناً في اليوم، بالتالي فقدت الشركة إيرادات محققة قدرت بنحو 36 مليون جنيه هذا بخلاف أرباح النقل
الأخرى التي سوف تحصل عليها الشركة نتيجة نقل هذه المنتجات من خلال أسطولها من السيارات
لصالح وزارة التموين، وجراء ذلك حققت الشركة خسائر 2010 نحو 3,6 مليون جنيه، تم تعويضها بعد ثورة 25 يناير جراء رفع أسعار الطحن .
سحب أسواق الشركة
ووفقا للعشوائية سمحت الدولة بإنشاء مطاحن في النطاق الجغرافي
للشركة، في مجال إنتاج الدقيق استخراج 82% ، وتم إقامة مطحنين بنطاق الشركة الجغرافي
في مدينة 6اكتوبر، الأول هو مطحن مكاوي للغلال بطاقة إنتاجية 150 طنًا، والمستغل منها
96 طنًا في اليوم، والآخر هو مطحن عباس زين بطاقة إنتاجية 100 طن المستغل منها 86 طنًا
في اليوم، في حين بلغت المطاحن التي تنتج الدقيق
البلدي في محافظة الجيزة وحدها نحو 15 مطحنًا طاقتها الإنتاجية نحو 2583 طنًا في اليوم
والمستغلة نحو 1461 طنًا في اليوم، وهذه القدرة تفوق قدرة الشركة الحكومية في أنتاج
الدقيق المدعوم بنحو 116% ليستحوذ القطاع الخاص
بالجيزة علي 55% من نشاط الطحن. وهو ما حول جزءًا كبيرًا من الطاقة الإنتاجية لشركة
مطاحن جنوب القاهرة والمطاحن الخاصة إلي طاقة عاطلة ، فوفقاً لإحصائيات عام
2011 كانت الطاقة المتاحة بالشركة نحو
2220 طنًا يوميًا موزعًا على عشرة مطاحن ،
والطاقة المستغلة منها 1558 طن يوم ، وهذا يعني أن هناك 662 طنًا طاقة عاطلة قادرة علي إنتاج الدقيق البلدي والفاخر.
حرمان الشركة من التوسع الجغرافي
وفي مجال إنتاج الدقيق الفاخر استخراج 72% أنشأ القطاع الخاص
بمدينة 6 أكتوبر وحدها 13 مطحنًا، تم تشييدها ما بعد عام 2000، دون مراعاة لحاجة السوق
المصري، بطاقة إنتاجية قدرة 4606 أطنان في اليوم، وشهرياً بنحو 138180 طنًا في حين
أن الإنتاج الفعلي لها هو 54128 طنًا خلال شهر يوليو 2012 وبنسبة تقدر 39% فقط من الطاقة المتاحة، وهو ما حول 61%، من قوة
الطحن بمدينة 6 أكتوبر إلي طاقة عاطلة، وكانت النتيجة ضرب القطاع العام، والخاص على
حد السواء .
حرمان الشركة من الحصص الجديدة
ومنذ عام 2005 كانت النمو في زيادة الطلب علي الدقيق البلدي
بالجيزة يوجه إلي القطاع الخاص ومنحته الدولة
نحو 1461 طنًا يوميًا في النطاق الجغرافي للشركة ، وهذه الكمية من 2005 حتى 2012 لو تم تخصيصها للشركة كان الممكن أن تحقق عائد من
سعر الطحن نحو 399 مليون جنيه ، كان سيسمح
لها بالتدريج في إنشاء قاعدة إنتاجية عملاقة تدر دخلاً للدولة ، حيث أن الشركة تعاني الشركة حاليا من ارتفاع
تكاليف التشغيل ، فقد بلغ بند الأجور وحدها في عام 2014 /2015 نحو 85 مليون جنيه .
ومازالت الشركة تتعرض حتى اليوم لقرارات سحب حصص الدقيق البلدي ، فقد تم مع بداية عام 2015 سحب نحو 510 جوال زنة
50 كيلو لصالح مطاحن القطاع الخاص .وهو ما يهدد استمرا الشركة وتشريد القوي العاملة بها .
البيروقراطية تجهض مخططات الدولة
وتعاني الشركة من البيروقراطية عند التعامل مع الأجهزة الحكومية،
وهو ما يعرقل نموها ، فبعد أن قررت دولة الأمارات
العربية الشقيقة إنشاء ٢٥ صومعة كمحنة لمصر؛ لتخزين وحفظ الأقماح
بطريقة حديثة تقلل الفاقد الاقتصادي، وباستثمارات قدرت بنحو٣٠٠ مليون دولار، كان نصيب شركة مطاحن
جنوب القاهرة صومعة طبقا للتوزيع الجغرافي،
بيد أن جهاز مدينة 6 أكتوبر وهيئة المجتمعات العمرانية يرفضان منح الشركة الأراضي اللازمة
لذلك بحجة أن الأمر يحتاج تدخل وزاري، وهو ما يعكس بيروقراطية الأداء وانفصال القيادات الوسطي للدولة عن المفهوم الإداري الحديث فيما يتعلق
بالقضايا ذات البعد الاستراتجي ، فتوفير القمح وحفظه بطريقة حديثة من متطلبات الأمن
القومي ، وخطورة الأمر كانت تستدعي قيام رئيس الهيئة بعرض الموضع بصورة فورية علي وزير
الإسكان للبت في الأمر خلال 24 ساعة ، لأن هذه الصومعة ملك مصر ولا تخص شركة بعينها
، وهذا النمط من الإدارة يحتاج إعادة بلورة عمل الأجهزة الحكومية من خلال منطلق يحقق
التكامل الاقتصادي بين مرافق وأجهزة الدولة
حتى تنتهي سياسة الجزر المنعزلة ، فالأيدي المرتعشة لا تبني وطن ومن هنا بات
من الضروري تدخل رئيس الوزراء لتوفير الأراضي اللازمة لبناء الصومعة ، وعودة الحصص
التموينية المسحوبة من شركة مطاحن جنوب القاهرة والجيزة ، وانقاد صناعة الطحن بما يضمن
مصالح وتنمية القطاعين العام والخاص ، فمرحلة بناء الوطن تتطلب حماية مصالح الجميع.
دراسة نشرت ببوابة وجريدة المشهد
بتاريخ 15 /4 /2015
تعليقات
إرسال تعليق